في مفارقة تعكس طبيعة الحكم في مصر تحت قيادة قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، أحالت نيابة الشؤون المالية وغسيل الأموال اليوم 19 أغسطس 2025 الفنانة بدرية طلبة إلى المحكمة المختصة بتهمة "إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي"، وتقرر بدء محاكمتها في 26 سبتمبر المقبل.
المفاجأة لم تكن في الاتهام بحد ذاته، بل في أن بدرية طلبة كانت طوال السنوات الماضية واحدة من أبرز الوجوه الفنية الداعمة للسيسي ونظامه، واعتبرت من أكثر الممثلين صخباً في مهاجمة معارضيه والتشفي في الإخوان والمعارضين السياسيين.
تأتي هذه المحاكمة بعد بلاغات رسمية تتهم بدرية بنشر فيديوهات ومحتوى على "تيك توك" يحوي إيحاءات وألفاظا تُعتبر خارج إطار الكوميديا المقبولة، وتفتقد إلى احترام القيم الاجتماعية، خاصة تجاه المرأة والشباب.
واللافت أن بدرية طلبة كانت من أشهر مؤيدي السيسي، بل و"مطبلته"، وتشمت في الإخوان، لكنها الآن هي عرضة لملاحقة النظام ذاته الذي دعمته.
لماذا انقلب النظام على بدرية طلبة؟
السؤال هنا لماذا انتهى الدعم للنظام بدرية؟ يمكن تفسير ذلك بأن النظام السيسي، الذي بنى حكمه على القمع والسيطرة المشددة، لا يتسامح حتى مع أصحابه في حال خروجهم عن الخط الرسمي أو إثارة جدل يضر بالسمعة العامة للنظام.
تصريحات بدرية التي استخدمت كلمات مثل "أسياد البلد" في سياق تحدي الجمهور أثارت غضبا كبيرا، وحذت بها نقابة المهن التمثيلية التي قررت التحقيق معها بحكم "انتهاك ميثاق الشرف الأخلاقي" للفنانين، ما يشير إلى أن ما كان مسموحا به سابقا من التطبيل صار مرفوضا الآن وحتى من داخل منظومة الداعمين.
بدرية طلبة.. رمز للتطبيل المفضوح
منذ انقلاب يوليو 2013، اتخذت بدرية طلبة موقفاً علنياً مسانداً للسلطة، وظهرت في لقاءات تلفزيونية تؤكد "حبها المطلق للرئيس السيسي"، بل وساهمت في حملات إعلامية استهدفت المعارضين، ومن بينهم الناشطة آية كمال التي اعتقلت عام 2014 بعد حملة تشهير قادتها شخصيات فنية وإعلامية كان لطلبة دور بارز فيها، ولطالما ارتبط اسمها بخطاب التهكم والسخرية من أي صوت معارض، حتى وُصفت بأنها "الممثلة التي تضحك السلطة".
لماذا انقلب النظام عليها؟
رغم هذا السجل من الولاء، وجد النظام مبرراً لمحاكمتها. مراقبون يرون أن إحالتها للقضاء ليست سوى دليل جديد على أن السيسي لا يحمي أحداً، وأن أدوات التطبيل نفسها قد تتحول إلى ضحايا في أي لحظة.
فالنظام الذي فتح السجون لآلاف المعارضين منذ 2013، لم يتردد في التخلص من أقرب داعميه حين تتعارض مصالحه معهم أو حين يريد إرسال رسائل تخويف جديدة للوسط الفني والإعلامي.
القضية تسلط الضوء على انهيار منظومة القيم والأخلاق في عهد السيسي، فالدولة التي روّجت لسنوات لخطاب "الأخلاق" و"محاربة الفوضى"، تستغل الفن والإعلاميين في التطبيل والتشويه، ثم تلقي بهم في السجون أو المحاكم حين ينتهي دورهم.
هذه السياسة ليست جديدة، فقد سبقتها ممارسات ضد إعلاميين مثل توفيق عكاشة الذي كان من أبرز داعمي السيسي قبل أن يُمنع من الظهور عام 2016 ويُحاكم بتهم مختلفة.
الدولة التي تأكل أبناءها
لعل محاكمة بدرية طلبة التي كانت من أبرز المطبلين للنظام، هي رسالة تحذيرية من السيسي لأي شخص حتى من داخل شبكته، بعدم تجاوز حدود الخط الرسمي، وعدم تجميع نفوذ خاص.
ما يحدث مع بدرية طلبة يعيد للأذهان مقولة إن "الثورات تأكل أبناءها"، لكن في حالة مصر اليوم يمكن القول إن "الانقلابات تأكل مُطبليها".
النظام الذي صنع طبقة من الفنانين والإعلاميين الموالين له، لم يعد يثق حتى فيهم. فقد أصبحت "الآلة الدعائية" عبئاً على السلطة حين يتحول خطابها إلى تهريج لا يساير السياسات الرسمية.
وفي هذا السياق، يقول أحد المحللين السياسيين في تصريح سابق عام 2022 : "السيسي لا يريد داعمين مستقلين، بل يريد أبواقاً تحت السيطرة الكاملة، ومن يخرج عن النص يلقى مصيراً مجهولاً".
انقلاب النظام على بدرية طلبة يفضح زيف ما كان يروج له من "قيم وطنية"، فالمجتمع المصري اليوم يشهد تفككاً أخلاقياً واضحاً؛ خطاب الكراهية أصبح سائداً، والشماتة في المعتقلين والمعارضين تحولت إلى مادة للتسلية على شاشات التلفزيون وصفحات السوشيال ميديا، وحين شاركت بدرية في نشر هذا الخطاب، لم تدرك أنها تساهم في صناعة بيئة غير آمنة حتى للمؤيدين أنفسهم.
القضاء المسيس..
القضاء الذي يحاكم بدرية طلبة اليوم هو نفسه الذي أصدر أحكاماً بالإعدام على المئات في جلسات لم تستغرق أكثر من دقائق، منذ قضية كرداسة 2014 وحتى قضايا الإخوان في السنوات اللاحقة.
وهو القضاء ذاته الذي تجاهل آلاف البلاغات عن الفساد والانتهاكات، لكن حين يتعلق الأمر بفنانة مؤيدة للسيسي، يصبح الاتهام جاهزاً بـ"إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي"، وهي تهمة فضفاضة استخدمت مراراً ضد ناشطين.
رسائل التخويف للوسط الفني
إحالة بدرية طلبة للمحاكمة تحمل رسالة واضحة لنجوم الفن والإعلام، الولاء للنظام لا يحمي من السقوط، فقد كان السيسي نفسه قد انتقد الفنانين في أكثر من مناسبة، أبرزها في مؤتمر الشباب 2018 حين قال: "الفن قوة ناعمة، لكنه يحتاج إلى توجيه يخدم الدولة".
هذا التصريح يُفهم منه أن أي فن أو خطاب خارج سيطرة الدولة يُعتبر تهديداً يجب محاصرته، حتى لو صدر من أشد المؤيدين.
اللافت أن كثيراً من رواد مواقع التواصل الاجتماعي استعادوا مقاطع لبدرية طلبة وهي تشمت في ضحايا النظام وتهاجم المعارضة، في نوع من "العدالة الساخرة".
البعض كتب معلقاً: "من شمت في اعتقال آية كمال، تواجه اليوم مصيرها"، هذا المشهد يكشف كيف انقلبت الآية، وكيف تحولت آلة الدعاية التي استخدمتها السلطة ضد خصومها إلى سلاح يهدد حتى رموزها.
نهاية حقبة التطبيل؟
محاكمة بدرية طلبة ليست مجرد قضية فردية، بل هي عنوان لمرحلة جديدة من انهيار منظومة الأخلاق والقيم في مصر، فالدولة التي استغلت الموالين وسخّرتهم في حملات التشهير والتطبيل، تكشف الآن أنها لا تؤمن حتى بالولاء، وأن كل من يعيش في فلكها معرض للسقوط، وبقدر ما تكشف القضية عن قسوة النظام، فإنها تفضح أيضاً هشاشة "طبقة المطبلين والمصفقين" التي ساهمت في ترسيخ حكم السيسي على حساب قيم المجتمع وحقوق الإنسان.