في محافظة المنيا – شمال صعيد مصر، وتحديدًا في نطاق مركز بني مزار ومناطق الاستصلاح غربًا، ظهرت خلال 19 أغسطس 2025 مقاطع ورسائل استغاثة لمُزارعين ومستثمرين صغار قالوا إن جهات تابعة للقوات المسلحة أجبرتهم على توقيع عقود حقّ انتفاع على الأراضي التي تحمّلوا كلفة استصلاحها وزراعتها على مدى سنوات.
وقد نشرت منصات محلية ومواقع تواصل هذه النداءات، متهمة الجهات الرسمية بفرض صيغ انتفاع قصيرة ومُجحفة لا تُراعي ما أُنفِق من أموال في البنية الأساسية والآبار.
تفاصيل العقود المطروحة
وفق شهادات متداولة، طُلب من بعض المُستصلحين التوقيع على حق انتفاع لمدد تصل إلى 7 سنوات، مع التلويح بسحب الأرض عند الرفض.
وتأتي هذه الصيغة على الرغم من أن النموذج الحكومي الشائع في مشروع "الريف المصري الجديد" يحدد مدة انتفاع 15 عامًا قابلة للتجديد، مع بدء السداد بعد الاستلام بمدة ستة أشهر ودفع مُقدمة تمثل قسط ستة أشهر من قيمة الانتفاع.
هذا التباين بين 7 سنوات المزعومة ميدانيًا و15 سنة المُعلنة رسميًا يطرح تساؤلات حول ازدواجية الأطر التعاقدية ومن يملك سلطة فرضها في غرب وغرب غرب المنيا.
كُلفة الاستصلاح على عاتق الأفراد.. ثم إيجار للأرض ذاتها
تُظهر الأدلة الرسمية أن نظام حقّ الانتفاع في مناطق غرب المنيا حمّل المُنتفعين منذ البداية عبء حفر الآبار خلال السنة الأولى وتجهيز البنية الأساسية للري.
عمليًا، هذا يعني أن المُزارع الصغير الذي دفع في شبكات الري والآبار والطُرق الداخلية يواجه لاحقًا إيجارًا دوريًا للأرض نفسها، ما يُحوّل المخاطرة الاستثمارية من الدولة إلى الأفراد.
وفي حال سحب الأرض أو تقصير مدة الانتفاع، يخسر المُزارع رأس المال الغاطس في البنية التحتية التي لا يمكن نقلها.
ليست المرة الأولى.. سجلّ من النزاعات على "الانتفاع"
الاستغاثة الحالية ليست حادثة منعزلة؛ فقد سبق أن اتُّخذت إجراءات بإلغاء أو تعديل صيغ انتفاع في مواقع أخرى، منها خطابات جهاز "مشروعات أراضي القوات المسلحة" لإلغاء عقود انتفاع على ضفاف النيل بمنيل الروضة العام الماضي، ما يعكس اتساع نفوذ الأجهزة العسكرية على ملف الأراضي ومرونتها في إعادة تعريف العلاقة التعاقدية مع الشاغلين.
وفي 6 مايو 2025، هُدمت أجزاء من قرية الفردوس بمحافظة بورسعيد رغم أحكام مدنية نهائية لصالح الأهالي المُنتفعين، في واقعة أصبحت مثالًا على هشاشة الحقوق التعاقدية في مواجهة السلطة التنفيذية.
المنيا… من وعود "1.5 مليون فدان" إلى واقع مُربك
روِّج للمحافظة على أنها بوابة الزراعة الذكية ضمن مشروع المليون ونصف المليون فدان، مع أرقام تفيد بتحويل الصحراء إلى مساحات مزروعة واسعة (تحدثت تقارير رسمية قبل نحو عام عن 420 ألف فدان بالمنيا في إطار المشروع الأشمل).
لكن على الأرض، تتكاثف شكاوى المُستثمرين الصغار حول تأخر التسليمات، وتبدّل الشروط، واشتراطات باهظة للريّ والطاقة، وصولًا إلى فرض صيغ انتفاع قصيرة تُهدّد الجدوى الاقتصادية طويلة الأجل لأي مزرعة نخيل أو حبوب تحتاج دورات استثمارية أطول لاسترداد التكلفة.
سياسات تُفاقم الأزمة
· مدد الانتفاع: النموذج المُعلن لشركة "الريف المصري الجديد" في غرب وغرب غرب المنيا يشير إلى انتفاع 15 سنة قابلة للتجديد، بينما تُفيد نداءات المنيا الجديدة بعرض 7 سنوات فقط.
تقليص الأجل يُحوّل عوائد الزراعة الدائمة (كالنخيل والزيتون) إلى مخاطرة خاسرة.
· الاستثمارات المبدئية: لوائح "الريف المصري" تُلزم المُنتفع بحفر الآبار خلال السنة الأولى كُلفة رأسمالية كبيرة، ما يعني أن أي إلغاء أو عدم تجديد يُبدّد رأس المال الخاص.
· توسّع قبضة المؤسسات العسكرية: قرارات رئاسية حديثة (2023) خصصت أراضي دولة لصالح جهاز مشروعات الخدمة الوطنية لأغراض الاستصلاح والزراعة، ما يمنح المؤسسة العسكرية مسارًا مباشرًا لإدارة وتوزيع أراضي الدولة وإعادة التعاقد عليها.
يقول مُزارعون من المنيا في الفيديوهات المتداولة: "بعد ما قعدنا ندي سُمرة في الأرض من سنين، فوجئنا بإجبارنا على حق انتفاع سبع سنين وإلا تُسحب الأرض" شهادة تختصر مفارقة أن من حوّل الصحراء لحقول يُعامَل كـ"مستأجر مؤقت" في أرض تحمل كُلّ تكاليفها.
ورغم أن هذه الشهادات منشورة على منصات اجتماعية، فإن تطابقها مع اتساع أدوار الأجهزة العسكرية في ملف الأراضي خلال السنوات الماضية يجعلها مؤشرًا جديًا لا يمكن تجاهله.
لماذا تتصادم عقود الانتفاع مع التنمية؟
تحوّل اقتصاد الأراضي إلى أداة جباية قصيرة الأجل عبر الإيجار والرسوم، بدلًا من التمليك المشروط بالإعمار، يضرّ بالأمن الغذائي وبالقطاع الخاص المحلي.
دراسات مستقلة وثّقت منذ سنوات اتساع الاقتصاد العسكري وقدرته على إعادة تشكيل الأسواق وسياسات الاستثمار، وهو ما يظهر اليوم في ملف الأراضي، جهة تنظيمية وحَكَم ومُستفيد في وقت واحد، بما يخلق تضارب مصالح يُضعف الثقة والعقود.
ماذا يطلب المُزارعون؟
المطلب الأول هو تعليق الصيغ المفروضة وإتاحة توثيق التكاليف الفعلية التي تكبّدها المُستصلحون (حفر آبار، خطوط ري، تسوية، كهرباء)، ثم إعادة التعاقد على أحد مسارين عادلين:
1. تمليك مُشروط بالإعمار مع رهن حقيقي على الأرض لصالح الدولة حتى سداد القيمة، أو
2. انتفاع طويل الأجل (30 سنة فأكثر) مع حماية قانونية من الإلغاء المُنفرد، وتثبيت آلية تعويض كامل عن الأصول الثابتة عند عدم التجديد.
كيف يُختزل انهيار الثقة في مشهد المنيا؟
القضية الحالية تُجسّد منطق الحكم في عهد السيسي، وهو توسّع نفوذ الأجهزة على حساب حقوق التعاقد، وتغليب العائد المالي السريع على التنمية الزراعية المستدامة، فحين يُجبَر مُستصلحو الصحراء في المنيا الذين موّلوا الاستصلاح من جيوبهم على توقيع انتفاع قصير وتُلوّح لهم سلطة السحب، فإن الرسالة لكل مُستثمر صغير في الريف المصري واحدة: المخاطرة عليك… والعائد ليس لك، وهذه وصفة مؤكدة لـإحباط الاستثمار وتعميق اختلالات الأمن الغذائي، مهما زخرفت البيانات الرسمية من عناوين عن "الزراعة الذكية" و"تحويل الصحراء إلى جنة".