عندما قال المتعاص عبد الفتاح السيسي إن "إيدينا مش ملطخة بدماء حد"، بدا هذا الادعاء وكأنه محاولة لتطهير صورة السلطة مما ارتُكب في سجونها وشوارعها من قتل واحتجاز خارج القانون.

لكنّ منظمة "جوار" لحقوق الإنسان لم تلتفت لتلك التأويلات الرسمية التي تُغسل بها الأيادي، بل أعلنت موقفًا واضحًا: المطلوب هو التوقف عن لغة التصريحات والتأكيد على لغة الحقائق والأدلة.

في تقريرها السنوي الأخير، وثّقت "جوار" العشرات من حالات القتل المباشر والانتهاكات، لكن الخطر الأكبر في بياناتها هو الإشارة إلى أنّ هذه الانتهاكات لم تكن عملاً عشوائيًا، بل سياسة متكاملة: من الهجمات على المتظاهرين، مرورًا بالقتل داخل السجون، إلى القمع الصامت للحرية السياسية، دون أن يتنبّه أحد إلى حجم الجريمة.

وقالت جوار إذا كانت الأيادي "ليست ملطخة بدماء أحد" كما تقول، فإليك بعضًا مما يجب أن تُسأل عنه وأن يوم الحساب آتٍ لا محالة.. إن لم يكن في الدنيا، فبين يدي الله في الآخرة.

 

مجزرة رابعة والنهضة

في 14 أغسطس 2013، قُتل أكثر من 1000 مصري في ساعات معدودة أثناء فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، في واحدة من أبشع المجازر في تاريخ مصر الحديث. هل هذه الأيادي "ليست ملطخة بالدماء"؟

 

الاعتقالات والاختفاء القسري والتصفية الجسدية

آلاف المعتقلين في السجون، من الشباب والأطباء والصحفيين والنساء.

حالات اختفاء قسري مستمرة، وتصفيات جسدية تُسوّق إعلاميًا كـ"اشتباكات"، وآخرها ما حدث في "المعصرة".

 

حصار غزة والتجويع عبر معبر رفح

بينما تتساقط القنابـ ـل على رؤوس أهلنا في غزة، كنت تمنع دخول الوقود والدواء والغذاء عبر معبر رفح. ومنعتَ المتطوعين من إدخال مساعدات، بل واعتقلت بعضهم. ماذا تسمي هذا؟ دعمًا للمـ ـقاومـ ـة؟ أم شراكة في الحصار؟!

 

تجريف سيناء وتهجير أهلها

هُجّر الآلاف من أهالي رفح والشيخ زويد، ودُمّرت منازلهم بحجة "محاربة الإرهـ ـاب". هل هذه ليست جرائم؟

 

سرقة ثروات الشعب وإفقاره

بينما يزداد الشعب فقرًا، تُهدر مليارات على قصور وقطارات معلّقة، وتُعتقل من يعارض أو يكشف الحقيقة. أليست هذه "أموال أحد" التي تحدثت عنها؟!

 واختتمت الخوف الحقيقي من الله لا يكون بالشعارات.

https://www.facebook.com/share/v/1673doMk33/

 

أدلة بصرية شديدة التغطية، تتحدث عن نفسها:

1. فيديو شهداء رابعة - شهادات في مواجهة التكذيب
وثائقي عُرض بمناسبة الذكرى العاشرة لمجزرة رابعة، يوثق اللحظات التي طوّق فيها الجيش الساحة وهاجَم المئات من المتظاهرين.

يمكن مشاهدة مشاهد تهزّ المشاهد، وصراخ النساء، والمدنيين الذين فقدوا دماءهم في المغاور، ووجوهًا أولى لعائلات تبحث عن ذويها وسط القتل.

https://www.youtube.com/watch?v=vF0IEHqyk9g

هذا الفيديو ليس تاريخًا فقط، بل صفعة في مواجهة أولئك الذين ينكرون وقوع أي جرائم جماعية.

2. لحظة غيّر الصورة إلى الأبد: سيدة الصدر الأزرق
الفتاة التي صار يُطلق عليها "فتاة الصدر الأزرق" كانت تمثل رمزًا للصمود. ظهرت في مشهد صادم تتعثر فجأة، قبل أن يسحبها أفراد أمن ويتنمرون عليها جسديًا ولفظيًا. هذه الصورة، التي تجمّع ملايين الإعجابات على الإنترنت، هي شاهدة على المدى الذي وصل إليه القمع في قلب العاصمة.

3. مقطع شهير يروي سيناريو القمع
في فيديوهات مختلفة وُثّقت لحظة إطلاق الرصاص المباشر على جموع المتظاهرين، سواء في جامعة الأزهري أو الميادين، نرى دماء تسيل بلا رحمة، وسط فوضى الصراخ والهروب، في مشهد يقف العالم أمامه صامتًا.

https://www.youtube.com/watch?v=Rf0ZKco7I6A

4. مذبح الجنود في المنصّة: صحفيان قتلا ببندقية
حادثة وائل ميخائيل ومينا دانيال اللذين كانا يوثّقان الاحتجاجات أمام التلفزيون القومي، انتهت بوفاتهما أمام عدسة الكاميرا بسبب رصاص حي. هذا القتل لم يكن حادثًا فرديًا، بل توصيفًا لما تعنيه مراكز القرار: أن الصحافة والصحفيين الذين يوثقون القضية هم هدف.

5. الملحمة تتكرر: احتجاجات 2013 في ذكرى الانقلاب
في الذكرى السنوية للانقلاب الثاني عام 2013، شهدت شوارع مصر تسييسًا أمنيًا شديدًا، وأسفرت الاشتباكات عن سقوط عشرات القتلى، ممن لم يكونوا سوى متظاهرين يطالبون بالشرعية.

https://www.youtube.com/watch?v=P2dqoHKWMPM&t=108s

 

قراءة ناقدة: بين السجالات والمشاهد الدامية
في خضم هذه الوقائع، يبدو الكلام الذي يردد أنّ أيدي القادة "لم تلطّخ دماءً" غير قابل للتصديق حتى من الناحية المعنوية. فماذا بعد؟ هل يكفي نفي الكلام لمحو الحقيقة؟ أم أن العدالة والحق لا يمكن أن يُطمس أدلةها، خاصة حين تُوثّق في الفيديو؟

الرد العملي لـ "جوار" كان يتجاوز التصريح: طالبت بفتح تحقيقات شفافة حول كل وفاة أو جرح داخل مظاهرة أو سجن، وأعلنت تأييدها لتجمّع عائلات الضحايا الرسمية، والتواصل مع المجتمع المدني العالمي لرفع الغطاء عن هذه الجرائم.

هذا الموقف لا يسعى لثأر شخصي، بل لإنقاذ مفهوم الدولة من سيناريو يصبح فيه أي نقد أو توثيق في عداد "الخيانة". بل إن الحفاظ على المصداقية الوطنية يعني أن نعترف بأخطاء الماضي، وأن نؤمن بأن العدالة الحقيقية تنبع من مواجهة الذنب، لا من إنكاره.

 

العدالة لا تموت مع الكلام
بغاياته المشيدة، حاول السيسي أن يرسم صورة الزعيم الآمن، الذي لا يلطخ يديه بالدماء. لكن شهادة "جوار" ووضوح الفيديوهات تقول شيئًا مختلفًا تمامًا: أن النظام خان الأمانة، وأن قرارات القتل لم تكن بمزاج فرد، بل منظومة أمنية أعمتها الرغبة في البقاء.

إن العدالة تبدأ حين يعترف النظام بما ارتكب، وليس حين يطلب أن يُغسل تاريخاته. العالم لن ينسى رابعة، ولن يمحو فيديوهات الحزن والصراخ... لأن الكاميرا لا تُجرّد، بل تحفظ ملامح الضحية.