تشير كل المؤشرات إلى أن الشرق الأوسط يمر بمنعطف حاسم. فمنذ أكثر من عقد، تسعى الولايات المتحدة إلى تقليص دورها كقوة مهيمنة في المنطقة، مركّزة اهتمامها على آسيا. ورغم نوايا الإدارات الأمريكية منذ عهد أوباما بالانسحاب، فإن الأزمات المتتالية كانت تعيد واشنطن إلى المنطقة.
لكن مع بداية الولاية الثانية لدونالد ترامب، ظهرت فرصة فعلية للانسحاب الاستراتيجي، خاصة بعد تخلّص إدارته من المحافظين الجدد وتبنّيها سياسة "أمريكا أولاً"، مما أرسل رسالة واضحة لدول الخليج بأن عليها تولي زمام المبادرة.
وبالفعل، تحركت قطر وعُمان والسعودية لتأدية أدوار استراتيجية، وسعَت بالتنسيق مع مبعوث ترامب في المنطقة، ستيف ويتكوف، إلى التأسيس لإطار نووي جديد مع طهران. بدأ حينها شكل من أشكال التهدئة الإقليمية بالتبلور، وسط تصوّرات عن نظام إقليمي جديد قائم على القوة الناعمة والتكامل الاقتصادي بدل الهيمنة.
لكن هذا التصوّر لم يأخذ في الحسبان دورًا حاسمًا: إسرائيل.
تصعيد كبير
منذ هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، غيّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نهجه الاستراتيجي. فبدل سياسة الضربات المحسوبة، تحولت إسرائيل إلى أسلوب هجومي متطرف، مستخدمة القوة المفرطة دون حسابات دقيقة. وبينما لم تحقّق إسرائيل نصرًا حاسمًا في غزة، فإنها تمكّنت من شلّ حركة حزب الله، وبدأت بتنفيذ ضربات مباشرة داخل إيران بهدف إحداث تغيير في النظام وإفشال أي مفاوضات محتملة بين طهران وواشنطن.
هذا التحرك مرتبط بأهداف نتنياهو السياسية والشخصية. فمع صعود الدبلوماسية الخليجية وتراجع نفوذ دعاة التصعيد في واشنطن، شعر نتنياهو بأن تأثيره يتراجع، فلجأ إلى التصعيد ليضمن استمرار دوره المحوري ويمنع أي اتفاق إيراني أمريكي.
تبرع إسرائيل في تدمير خصومها، لكنها تفتقر إلى الإرادة أو الشرعية أو القدرة على بناء نظام مستقر بديل. والآن، بينما تضع المنطقة على حافة مواجهة ممتدة، تتردد دول الخليج في اتخاذ خطوات حاسمة رغم امتلاكها الأدوات اللازمة.
موقف الخليج
الوضع الحالي يذكّر بأزمة النفط عام 1973، حين استخدمت السعودية نفوذها لإعادة تشكيل سياسة واشنطن. واليوم، تمتلك دول الخليج نفوذًا أكبر على المستويات المالية والطاقة والدبلوماسية، لكنها لا تزال تتردد في استخدامه بفعالية لتوجيه السياسة الأمريكية.
رغم علاقاتها الواسعة مع أطراف إقليمية، وقدرتها على التأثير في فاعلين كالحوثيين وحماس، لا تزال دول الخليج تفضّل الدبلوماسية الهادئة والتعاملات المالية على المواجهة السياسية المباشرة. في المقابل، تمارس إسرائيل ضغوطًا مكثفة عبر أدواتها العسكرية والاستخباراتية لتحديد مسار السياسة الأمريكية في المنطقة.
تحول إقليمي
نتنياهو لا يسعى إلى استقرار شامل، بل إلى إعادة تشكيل المنطقة وفق تصور إسرائيلي بحت. وقد يبدو أن فرص تحقيق تغيير النظام في إيران باتت أقرب من أي وقت، لكن دون تدخل بري أمريكي أو إسرائيلي، تتجه المنطقة نحو استراتيجية استنزاف طويلة الأمد، هدفها إضعاف الجمهورية الإسلامية عبر الضربات المستمرة.
اغتيال المرشد الإيراني، علي خامنئي، مثلًا، قد يفتح بابًا لصراع على الخلافة، ينتهي إما بسيطرة الحرس الثوري، أو بانهيار الدولة إلى كيان فاشل تتركز فيه السلطة في طهران المحاصرة، مع فوضى على الأطراف.
وفي هذه الفوضى، ستجد دول الخليج نفسها بجوار جار منهار، مليء بشبكات مسلحة مستقلة، لا تختفي بل تعيد تشكيل نفسها في كيانات مقاومة متفرقة، تتاجر بالسلاح والأيديولوجيا.
نظام بلا توازن
الميليشيات الشيعية المسلحة سبقت وجود الجمهورية الإسلامية، وستواصل نشاطها في غياب سلطة مركزية. وبدون توازن حقيقي، لن يستطيع الخليج ضمان استقراره، خاصة في ظل إسرائيل التي تزعزع التوازنات دون أن تقدم بدائل.
ومع ازدياد تطرف الدولة الإسرائيلية داخليًا، وابتعادها عن التوافق الإقليمي، يصبح دورها كعنصر توازن غير ممكن. هي الآن مجرد قوة مدمّرة.
دور الخليج المقبل
على هذا الأساس، على دول الخليج التحوّل من دور المموّل إلى دور الفاعل الاستراتيجي. وهذا يتطلب:
إعادة بناء نفوذها السياسي في واشنطن للضغط من أجل حلول دبلوماسية.
استثمار علاقاتها مع قوى كبرى مثل الصين وروسيا لتوفير بدائل للنفوذ الأمريكي.
تعزيز ثقتها الذاتية بأنها في مركز اللعبة الجيوسياسية، ولديها القدرة على التوسط وبناء التوازنات.
الخليج اليوم أمام مفترق طرق: إما أن ينهض لتشكيل مستقبل المنطقة، أو أن يكتفي بلعب دور من ينقّب بين أنقاضها.
https://www.middleeasteye.net/opinion/israel-attacks-iran-will-gulf-states-lead-or-be-left-behind