مع كل عيد أضحى، تتكرر مشاهد البهجة والتكبيرات، وتملأ رائحة الشواء الأحياء، لكن خلف هذا المشهد الاحتفالي، تتحرك تجارة موسمية ضخمة غير منظمة، تُهدَر فيها ثروة قومية صامتة: جلود الأضاحي.
في حي بحري بالإسكندرية، يقود محمود عبد الرحيم دراجته النارية في جولة سريعة بين الأزقة، يبحث بعينٍ خبيرة عن ذبيحة انتهى سلخها، ليسأل السؤال ذاته: "الجلد لله ولا للبيع؟"، مدركًا أن الوقت لا يرحم، وأن كل دقيقة تأخير تعني احتمال تلف الجلد وفقدان قيمته.
ويشرح محمود: "الناس أصبحت تعرف قيمة الجلود، لكن العشوائية ما زالت تتحكم في كل شيء، من الذبح وحتى التخزين"، مضيفاً أن تجارة الجلود أصبحت مزدحمة بالباعة الموسميين الذين يفتقرون إلى الخبرة أو أدوات الحفظ.
الذبح العشوائي يهدر الثروة
رغم أن الحكومة تفتح مجازرها مجاناً في العيد، لا تزال مشاهد الذبح العشوائي داخل المنازل أو الشوارع منتشرة، خاصة في الأحياء الشعبية. ويفتقر العديد من الجزارين العاديين للخبرة اللازمة في السلخ، ما يتسبب في تلف الجلود أو إصابتها بشقوق تقلل من قيمتها.
تقول مديرية الطب البيطري في بيان صادر عن محافظة الإسكندرية إن من يخالف شروط الذبح يُعرّض نفسه لعقوبات تصل إلى إغلاق المحل 60 يومًا، مع غرامات تُحال للنيابة المختصة.
لكن على الأرض، المشهد مختلف تماماً. في زقاق بحي الورديان، يفرش الشاب مصطفى قطعة بلاستيكية ويبدأ تمليح جلود جمعها طوال النهار. "أترك قيادة التوك توك وأشتغل في الجلود خلال العيد.. فيها شقاء بس فيها فلوس"، يقول مصطفى، دون أن يعرف حتى إلى أين تنتهي هذه الجلود بعد بيعها لتجار الجملة.
تبرعات تتراجع وسوق متدهورة
تقول سمية وهيب، مسؤولة في إحدى الجمعيات الخيرية، إن حملات جمع الجلود لم تعد كما كانت، فعدد المتبرعين تراجع، والمنافسة مع التجار الموسميين أصبحت شرسة. وتشير إلى أن بعض الأهالي لا يعلمون أن بيع الجلد بعد الأضحية أمر مختلف عليه شرعاً، وأن التبرع به قد يدعم فقراء بأشكال عديدة.
وتؤكد أن جمعياتها تستخدم العائد من بيع الجلود في شراء لحوم أو أدوات مدرسية، إلا أن دخول باعة عشوائيين دون خبرة يعقّد العملية، ويُفقد الجلود قيمتها ويشوّه الهدف الخيري.
أزمة تنظيم وغياب التشريعات
رجب السعدني، تاجر جلود بالإسكندرية، يقول إن تراجع كميات وجودة الجلود المتاحة بعد العيد يعود إلى التأخر في الجمع وسوء التخزين. ويضيف: "الجلد يتلف سريعاً إذا لم يُملّح فوراً.. كثير من الجلود التي تصل إلى المدابغ تكون غير صالحة، والسبب الذبح السيئ أو تركها في الشمس".
ويشير السعدني إلى أن الأسعار ارتفعت كثيراً بسبب التضخم، فقد كان الجلد يُباع قبل أعوام بـ100 جنيه، والآن يصل إلى 700 جنيه، ولكن الندرة وتراجع الجودة لا يجعلان من ذلك فرصة حقيقية كما تبدو.
موسم إنتاج قومي مهدور
يصف محمود سرج، رئيس المجلس التصديري للجلود، موسم عيد الأضحى بأنه "ذروة إنتاج قومي" لا تجد من يلتقطها. فالكميات المنتجة خلال العيد تعادل ما تنتجه مصر طوال العام، لكن العشوائية تهدر ما يصل إلى 75% من قيمة الجلود.
ويطالب سرج بتشريعات تُجبر على الذبح داخل المجازر الرسمية وتمنع الذبح العشوائي، مشيراً إلى أن تحسين جودة الجلد يبدأ من أول سكين تلامس الذبيحة. كما دعا لتكثيف التوعية للمواطنين والجزارين على أهمية السلخ المهني.
مقترحات للحل
محمد أبو الخير، عضو مجلس إدارة شعبة الأحذية والمصنوعات الجلدية، يقترح حلولاً عملية، أبرزها:
- إنشاء منطقة صناعية للجلود قرب المدن لتسهيل تجميعها وتصنيعها.
- تكليف هيئات محلية بجمع الجلود مباشرة.
- منح تراخيص مؤقتة لتجار موسميين مدرّبين.
- إطلاق تطبيق إلكتروني لتسجيل المتبرعين وتوجيه الجمعيات لمواقعهم.
- توفير تدريبات سريعة لحفظ الجلود بشكل صحيح.
كنز اقتصادي لا يُستثمر
وسط الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، تبدو جلود الأضاحي فرصة حقيقية لزيادة الدخل القومي، سواء عبر دعم الصناعة المحلية أو التصدير. ومع تراجع الجنيه المصري، فإن تصدير الجلود المُعالجة يمكن أن يُحقق عوائد ضخمة بالدولار.
لكن استمرار غياب التنظيم، وهيمنة العشوائية، يحول هذه الفرصة إلى مأساة اقتصادية مكررة كل عام، تُترك فيها الجلود تحت الشمس لتتعفن، أو تُباع بأثمان زهيدة دون أي استفادة حقيقية منها.
وبينما ينتهي عيد الأضحى، يعود تجار الجلود المؤقتون إلى أعمالهم الأصلية، ويُطوى ملف "الكنز المُهدر" إلى الموسم المقبل، حيث تُعاد الفوضى ذاتها، وتضيع الملايين مجددًا.