وائل قنديل

كاتب صحافي مصري

 

ليس ثمّة ما يشير إلى تعمّد اختيار دونالد ترامب الأسبوع الثالث من مايو للقيام برحلته الاعتيادية إلى الخليج بعد كلّ مرّة يفوز فيها بالرئاسة، تزامناً مع ذكرى النكبة العربية وإتمام مشروع الاحتلال الصهيوني لفلسطين، غير أنه يبقى لافتاً أنّ زيارته الجارية تمتدّ على مدى أيام ذكرى النكبة، فيما كانت زيارته الأولى 2017 في نهاية الأسبوع ذاته من الشهر نفسه.

في الزيارة الأولى، كان ترامب حريصاً على إظهار انحيازه الصهيوني غير عابئٍ بردّات الفعل العربية، وأعقبت ذلك مجموعة من الخطوات الدرامية المتلاحقة جاءت كلّها في مصلحة الاحتلال، من نقل السفارة الأميركية إلى القدس اعترافاً بها عاصمةً للكيان، على أن تكون يهوديّة خالصة، وخروج نتنياهو متحدياً بكلّ ثقة: "أقول بوضوح  لأفضل أصدقائنا أورشليم الكاملة هي عاصمة "إسرائيل" الأبدية وسنواصل البناء فيها، في كلّ أحيائها، مثلما يبني كل شعب في عاصمته ويعمرها.

هذا حق طبيعي في دولة ذات سيادة، ولن نتخلى عنه وسنواصل ممارسته"، ثم ظهور ما عُرفَ بصفقة القرن التي كانت الأساس الأيديولوجي الذي تمارس به إسرائيل عدوانَها الممتدّ منذ العام 2023، تحت غطاء أميركي جعل ترامب يقرّ بضرورة توسّع الاحتلال جغرافياً في الإقليم، وهو ما جرى بالفعل في الجغرافيا السورية الجديدة، وما يحدث في مشروع إعادة احتلال الضفة الغربية وتهويدها.

هذه المرّة، في الزيارة الثانية للرئيس الأميركي يُظهر ترامب وجهاً مختلفاً من السعودية، على أنغام أغنية "God bless the U S A" أو "بارك الله في أميركا" للمطرب الأميركي لي غرينوود التي وقفت لها قاعة الاحتفال في العاصمة السعودية إجلالاً ومهابة، إذ يحاول هذه المرّة تقمّص شخصية "ترامب العرب" بحديث منهمر عن عظمة ما وجد في هذه البلاد من مجدٍ وتطوّر وحداثة، إلى الحدّ الذي سأل فيه ولي العهد السعودي ببراءة الأطفال "هل تنام الليل يا محمّد". تعمّد ترامب أن يبدو خليجياً أكثر من أهل الخليج، وعربياً أكثر من العرب، بالإعلان عن تصدّيه، بكلّ ما لديه من قوّة باطشة، للمسِّ بعروبة الخليج، مرتدياً زي المحارب العربي المخلِّص لأي تهديد يصدر من أي كان لخلصائه العرب، مع حرص شديد على ألّا يأتي على ذكر إسرائيل بالاسم.

هل يصلح كلّ هذا الافتعال الفجُّ لترويج أوهام من نوعية أنّ الرئيس الأميركي يدير ظهره للكيان الصهيوني، وينهال بالصفعات على وجه نتنياهو، كما فعل إعلام عربي قبل الزيارة وفي أثنائها؟، هل تغيّر دونالد ترامب فجأة من التماهي التامّ مع كلّ ما يقرّره نتنياهو وإسرائيل إلى العكس من ذلك؟.

صحيح أنه لم يتحدّث عن إسرائيل لفظاً لكن جوهر رحلته لخصه بالقول "أملي الشديد وأمنيتي وحتى حلمي أنّ المملكة العربية السعودية ستنضم قريباً إلى اتفاقات أبراهام". ... الشاهد أننا بصدد شخصٍ لا يتحدّث داخلياً وخارجياً إلّا في الفلوس والاستثمارات، ومحرّكه الأوّل في ممارسته السلطة هو الأموال، ولا يزال تصريحه بعد انتخابه يتردّد في الإعلام الأميركي حين قال "آخر مرة سافرت فيها إلى السعودية (عقب رئاسته الأولى 2017) كانت لأنّ المملكة وافقت على شراء بضائع أميركية بمليارات الدولارات"، وتابع: "إذا كان العرض مناسباً، فسأفعل ذلك مرّة أخرى"، وفي ذلك نشرت صحيفة نيويورك تايمز صباح أمس أن جولة ترامب الخليجية تدور حول "البيزنس".

لطالما اعتبر الرئيس ترامب الرئاسة فرصةً عالميةً لعقد الصفقات. اليوم، يبدأ جولةً تستمر أربعة أيام تشمل السعودية وقطر والإمارات، وقد أبلغ مستشاريه أنه "يريد الإعلان عن صفقاتٍ تتجاوز قيمتها تريليون دولار".

ليس جديداً أنّ العرب يدركون مفتاح شخصية ترامب، فيدخلون إليه بالعطايا أو الاستثمارات، بحجّة أنه الوحيد القادر على الوقوف في وجه نتنياهو وفرض نهاية للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزّة، والحجة أنّ العرب الآن في أضعف أحوالهم، وهذا غير صحيح، بل يمكن القول إنّ الرئيس الأميركي يأتي المنطقةَ هذه المرّة والعرب في موقف أقوى مما كانوا عليه في زيارته الأولى 2017، حين كان الوطن العربي ممزّقاً ومهلهلاً على نحوٍ يُنذر بحروبٍ عربيةٍ عربية، أما هذه المرة فيبدو العرب مجتمعين، والمقاومة الفلسطينية تصمد في وجه الترسانة الأميركية والعدوان الصهيوني منذ 19 شهراً، فما الذي يضطرّهم إلى الرضوخ لمنطق إنسانٍ لا يشبع؟!.