في قلب القاهرة القديمة، تتواصل أعمال الهدم في منطقة مقابر باب النصر التاريخية، التي تحتضن رفات أجيال من المصريين منذ قرون، وسط اعتراضات متزايدة من خبراء ومواطنين يرون في ما يحدث طمسًا متعمدًا لذاكرة المدينة لصالح مشروعات تجارية وبنية تحتية بلا هوية.
وفي حين تصف محافظة القاهرة المشروع بأنه تطوير عمراني، تؤكد شهادات من ميدان الهدم أنه تجريف للتاريخ وامتهان للموتى.
 

هدم بلا توثيق.. وذاكرة تُمحى
   بحسب مسؤول سابق بوزارة السياحة والآثار، مشترطًا عدم كشف هويته، فإن ما يحدث هو "جريمة كاملة الأركان"، تمضي على خمس مراحل، وصلت نسبة الإنجاز فيها حتى الآن إلى نحو 30% من مساحة المقابر.
ويضيف أن الهدف الحقيقي "هو إخلاء المنطقة لبناء جراج يخدم مولًا تجاريًا وفنادق جديدة على بعد أمتار من جامع الحاكم بأمر الله، وكل ذلك دون إشراف أثري أو تنسيق مع الجهات المختصة".

المصدر أشار إلى أن هذه المدافن، وإن لم تكن جميعها مُسجلة رسميًا كآثار، فإنها تمثل تراثًا لا يقدّر بثمن، لكن اللافت في شهادته أن كل محاولة لتوثيق ما يُهدم تُقابل بالمنع، بل والمصادرة الأمنية.
فيما قال المصدر: "باحثين حاولوا يصوروا وتمت مصادرة هواتفهم، وده حصل قبل كده في مقابر الإمام الشافعي".

ولم تكن هذه الحوادث معزولة. ففي أكتوبر الماضي، أطلقت جهات مدنية وأحزاب وحوالي 700 معماري وناشط حقوقي نداءً عاجلًا لوقف أعمال الهدم، بعد أن طال الجرافات قبة مستولدة محمد علي باشا، ما دفع وزير الثقافة إلى إعلان وقف مؤقت للهدم بمقابر الإمام الشافعي لحين التنسيق مع الجهات المعنية.

لكن ما حدث لاحقًا زاد المخاوف: مئذنة قنصوة الغوري، التي سبق ترميمها بخبرات دولية على يد مؤسسة الآغا خان، لم تسلم من الهدم، بحسب المصدر نفسه. بل يؤكد أن "بعض أعمال الهدم تتم ليلًا، وبدون أي أرشفة أو توثيق، ولا احترام حتى للميت".
 

القاهرة التاريخية في خطر
   التحذيرات امتدت إلى جهات علمية رسمية. إذ أكد الدكتور عبد الرحيم ريحان، عضو لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للآثار، أن جبانة باب النصر تقع ضمن حدود القاهرة التاريخية المسجلة لدى اليونسكو كموقع تراث عالمي منذ عام 1979، وأن استمرار الهدم دون إخطار المنظمة الدولية قد يعرض القاهرة للإدراج على "قائمة الخطر".

وطالب ريحان بتشكيل لجان علمية وقانونية لتقييم وتصنيف هذه المقابر وتوفير الحماية القانونية لها، مشددًا على أن التراث لا يُطور بالجرافات.
 

معاناة الأحياء.. واستغلال الأموات
   من جهة أخرى، تواجه العائلات التي طُلب منها إخلاء مدافنها، صعوبات مادية ولوجستية ونفسية لنقل رفات موتاهم إلى مقابر الروبيكي بمدينة العاشر من رمضان، والتي حددتها المحافظة كبديل.
وعلى فيسبوك، تتوالى الشكاوى عن سوء التجهيز وغياب البنية التحتية ووسائل المواصلات في الروبيكي.

لكن الأزمة الأعمق هي استغلال عملية نقل الرفات من قبل تُرَبية وسماسرة. يقول أحد سكان الجمالية، تمتلك عائلته مدفنين في باب النصر، إنهم طُلب منهم دفع ما بين 17 و20 ألف جنيه لنقل الرفات، ويصف ذلك بأنه "مبلغ خرافي" لا يمكن تحمله.

هذه المبالغ ترتبط أحيانًا بوضع قانوني معقد، حيث يقول المصدر إن كثيرًا من العائلات لا تملك مستندات ملكية أصلية للمدافن المتوارثة، ما يضعهم أمام موقف رسمي جامد: "ما نعرفكوش"، كما تقول المحافظة.
 

المحافظة ترد.. لكن الشكاوى مستمرة
   من جهته، نفى المهندس أحمد غالب، وكيل إدارة الجبانات بمحافظة القاهرة، صحة المبالغ المتداولة، واصفًا إياها بأنها "مبالغ فيها"، وقال إن "التُربي مش موظف بأجر، لكنه معين من المحكمة وبيعيش على ما يسمى بالسنوية أو إكراميات بسيطة، مش 20 ألف جنيه".

غالب دعا الأهالي إلى التواصل معه مباشرة في حال وجود أي تجاوز، وأكد وجود لجنة مختصة بمحاسبة التُرَبية حال ارتكاب مخالفات.

أما عن تجهيزات مقابر الروبيكي، فقد أوضح محمد سعيد، أحد المسؤولين عن مشروع نقل المدافن، أن المشروع لا يزال تحت الإنشاء وتنفذه الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، مشيرًا إلى أن استقبال الرفات يتم بشكل استثنائي في جزء محدود من الأرض.

سعيد أكد أن المقابر مجهزة بالكامل، وتم إدخال كميات ضخمة من الرمال لتغطيتها، إضافة إلى وجود أمن وغفراء في الموقع، نافيًا وجود تمييز في التصميم، وقال: "كل المقابر في مصر من غير أسقف، ولو حد عايز يعدل لازم ياخد تصريح".
 

ما بين التطوير والطمس
   المشروع، بحسب البيانات الرسمية، يستهدف إنشاء 400 ألف مدفن، تم إنجاز نحو 80% منها حتى الآن. لكن اللافت أن كل ذلك يتم وسط غياب شبه تام للنقاش المجتمعي، ودون إعلان واضح عن المخطط الكامل لما سيُقام مكان المقابر، في مشهد يرى فيه كثيرون نموذجًا لما يحدث حين تُختزل مفاهيم التطوير في إزالة القديم دون احترام تاريخه.