كشفت مستندات رسمية عن تورط وزارة الآثار عبر قياداتها الحالية، في السماح بهدم مقابر «باب النصر» التاريخية، إحدى أقدم الجبانات الإسلامية بالمدينة، لتمهيد الأرض أمام إقامة جراج سيارات ومطاعم تجارية، في مشهد يعكس تواطؤًا رسميًا ضد تراث القاهرة،
وعلى الرغم من تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي صورًا توثق استكمال أعمال الهدم خلال الأسابيع الماضية، فإن وزارة الآثار التزمت صمتًا مريبًا، فيما صرح محافظ القاهرة، إبراهيم صابر، بتصريحات مقتضبة لم ينف خلالها وقائع الهدم، مكتفيًا بوصف ما يحدث بأنه مجرد «نقل» للمقابر إلى أماكن بديلة، ومشددًا على أن الموقع «ليس أثريًا».
مستندات تكشف تواطؤ الآثار
تفيد المستندات بأن وزارة الآثار، وتحديدًا قياداتها الجديدة بعد الإطاحة بالأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيري، تعمدت تعطيل اللجان الرسمية المكلفة بدراسة وتسجيل مقابر باب النصر، حتى يتم استكمال عمليات الهدم بعيدًا عن أي غطاء قانوني يحمي التراث.
وبحسب الوثائق، كان مصطفى وزيري قد أصدر قرارين في فبراير ومارس 2024 بتشكيل لجان لدراسة مقابر الصالحين بمناطق المقطم، وإعداد تقارير عن المقابر ذات الأهمية الأثرية، بما فيها مقابر باب النصر. غير أن تغييرات واسعة داخل الوزارة، أعقبت أزمة «تبليط» هرم منكاورع، أطاحت بوزيري، وتم تعيين محمد إسماعيل بدلًا منه.
وبمجرد تعيين إسماعيل، تبين أن اللجنة المكلفة توقفت عن العمل، وسط تعليمات غير رسمية بـ«تجميد» نشاطها، وفقًا لشهادات مسؤولين كبار ووثائق رسمية.
خطة ممنهجة لتعطيل التسجيل
بتاريخ 19 مارس 2024، خاطب رئيس قطاع الآثار الإسلامية حينها، أبو بكر عبدالله، الأمين العام الجديد، مطالبًا بالموافقة على تعديل مهام اللجنة لتشمل مقابر باب النصر، إلا أن الطلب تجاهل لاحقًا، وسط استمرار أعمال الهدم.
لم يصدر عن وزارة الآثار أي موقف رسمي حيال عمليات الإزالة، فيما ظل المتخصصون يتساءلون عن مصير المقابر، خصوصًا مع وجود تعليمات سابقة بضرورة معاينتها وتسجيلها لحمايتها.
وفق ما كشفته مستندات أخرى، لم يُظهر جمال مصطفى، الذي عُين لاحقًا رئيسًا لقطاع الآثار الإسلامية، أي تحرك باتجاه حماية مقابر باب النصر، وعندما بدأت أعمال الهدم فعليًا في أغسطس، برر مسؤولو القطاع الموقف بالادعاء أن المقابر «غير مسجلة»، متجاهلين تمامًا أن هناك لجانًا تم تعطيل عملها عمدًا.
الصمت ينكسر.. والفضيحة تتسرب للخارج
بقيت الوزارة في حالة إنكار حتى انفجرت أزمة شطر قبة «مستولدة محمد علي باشا»، التي تداولتها وسائل الإعلام العالمية، لتفتح الباب أمام كشف ممارسات وزارة الآثار. فظهر الدكتور جمال عبد الرحيم، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة ورئيس اللجنة المجمدة، عبر التلفزيون الألماني، ليفضح علنًا أن لجنة تسجيل المقابر توقفت بفعل تغييرات قيادية داخل الوزارة.
وقال عبد الرحيم نصًا: «كان فيه لجنة برئاستي من حوالي 5 أو 6 شهور لتسجيل هذه الآثار، ولكن بسبب ظروف تغير القيادات، اللجنة وقف نشاطها وإن شاء الله سوف تعود».
كلمات عبد الرحيم شكلت شهادة دامغة على ما جرى خلف الكواليس لإفساح الطريق أمام هدم مقابر تاريخية تحت غطاء «عدم التسجيل».
استقالات احتجاجية وتجميد اللجان
وتواصلت المؤشرات على غضب بعض مسؤولي الوزارة.
ففي أغسطس الماضي، تقدمت رانيا الشيوي، مديرة منطقة آثار الإمام الشافعي، باعتذار رسمي عن منصبها، تضمن توثيقًا لمحاولاتها المستمرة لتسجيل مقابر باب النصر، قبل أن يتم تجاهلها وتجميد اللجنة بأمر شفهي من رئيس الإدارة المركزية للقاهرة والجيزة، ضياء زهران.
في خطابها للأمين العام محمد إسماعيل، أوضحت الشيوي أن التجميد تم دون قرار رسمي، بالمخالفة للقانون الإداري، وأكدت أن هذه المقابر كانت تستحق الحماية الرسمية لكونها جزءًا لا يتجزأ من تراث العاصمة.
لماذا تعتبر مقابر باب النصر كنزًا تراثيًا؟
تؤكد دراسات الدكتورة جليلة القاضي، أستاذة التخطيط العمراني بجامعات باريس، أن جبانة باب النصر هي ثاني جبانة أنشئت بالقاهرة بعد الفتح الإسلامي، وقد أنشأها الفاطميون لتكون مدفنًا لكبار المتصوفة والعلماء أمثال ابن خلدون والمقريزي.
وقد أشار المهندس إيهاب حنفي، المتحدث باسم صندوق التنمية الحضرية، إلى أن المشروع المزمع إقامته مكان المقابر يشمل جراجًا بعمق 100 متر مع واجهة معمارية بطول 120 مترًا، سيتم استغلالها لإقامة مطاعم ومرافق ترفيهية.
المستندات بجودة عالية:
https://www2.0zz0.com/2025/04/28/21/550009134.jpg