مصانع "بير السلم" تُغرق الأسواق بأدوية مغشوشة تفتك بالمصريين
الثلاثاء 22 أبريل 2025 11:00 م
داخل معمل صغير خلف "الجامع الأحمر" في وسط القاهرة، لا يملك صاحبه سجلًا صناعيًا أو بطاقة ضريبية، تباع عبوات فارغة لعلب دوائية وأجهزة تغليف للحقن وأقراص الدواء، دون أي رقابة. هذا المكان ليس استثناءً، بل مجرد حلقة في شبكة واسعة لتزييف الأدوية، كما يكشف تحقيق الذي يتتبع خفايا هذه الصناعة القاتلة، وأطرافها، وخطوط إنتاجها، وضحاياها.
"عرض مغرٍ"... بداية القصة
كان يومًا عاديًا في صيدلية سمير عباس بمحافظة دمياط، حتى دخل عليه رجل بهدوء، انتظر خلو المكان ثم قدم عرضًا غريبًا: شراء الأدوية منتهية الصلاحية من الصيدلية. "ندّعي أنه يمثل مخزن أدوية كبيرًا يعيدها للشركات المصنعة"، يقول عباس. لكنه، كصيدلي خبير، يعرف جيدًا أن الشركات لا تقبل استرجاع أدوية منتهية، ما جعل العرض يفضح نوايا المندوب.
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة، بل تكررت خمس مرات خلال عامين، بأشكال مختلفة وأشخاص يعملون ضمن منظومة كاملة تعيد استخدام عبوات الأدوية المنتهية لتعبئتها بمحتوى مزيف، أو حتى بيع الأقراص نفسها بعد تغليفها بتاريخ جديد.
تجارة الظلام: صناعة متكاملة
في قلب القاهرة، اكتشف فريق التحقيق معملًا يعمل بلا ترخيص على بيع العبوات الفارغة وأدوات التغليف، فيما وثقت مؤسسة "الدواء للجميع" عشرات الأماكن المماثلة. هؤلاء المزوّرون يحصلون على الآلات القديمة من مصانع أُغلقت أو جدّدت معداتها، ثم يعيدون استخدامها في معامل تعرف شعبيًا باسم "مصانع بير السلم". ويقوم هؤلاء بتجميع أدوية منتهية الصلاحية من الصيدليات أو عبر منصات التواصل، لتعبئتها وطرحها مجددًا في السوق بتواريخ مزورة.
أرقام صادمة
بحسب بيانات هيئة الدواء المصرية، جرت خلال عام 2024 وحده 74 ألف حملة تفتيش على منشآت دوائية، تم خلالها ضبط 8600 مخالفة، بينها غش تجاري وترويج أدوية غير مرخصة. وبلغت قيمة المضبوطات 166 مليون جنيه، فيما جرى توثيق 147 جريمة إلكترونية تخص بيع أدوية مغشوشة عبر الإنترنت.
مواد خطرة وأدوية قاتلة
يوضح الدكتور محمد عز العرب، استشاري الكبد ورئيس وحدة الأورام بمعهد الكبد القومي، أن الأدوية المزيفة قد تخلو تمامًا من المادة الفعالة أو تحوي موادًا خطرة مثل مسحوق السيراميك أو النشا أو الطين الصناعي. فيما تشير منشورات هيئة الدواء إلى سحب 242 صنفًا دوائيًا مغشوشًا خلال 3 أعوام، من بينها مضادات حيوية ومستحضرات جلدية وأدوية تنفسية.
إحدى هذه الوقائع تخص دواء "يونيكتام" المضاد للبكتيريا، الذي تم ضبطه ضمن بؤرة غش في القليوبية تحوي آلاف العبوات من عدة أصناف، جاهزة للتوزيع، مع كميات كبيرة من النشرات الداخلية المزورة والزجاجات الفارغة وأدوات خلط وطحن.
"بير السلم": صناعة خارج القانون
في مارس 2019، داهمت شرطة القاهرة معملًا غير مرخص في مدينة بدر، يديره أصحابه تحت ستار "مطبعة"، ليتضح أن البناية المكوّنة من 3 طوابق مجهّزة لتصنيع الأدوية، باستخدام مواد مجهولة وألوان صناعية. المعمل، شأنه شأن عشرات الأماكن المشابهة، لا يملك سجلاً صناعيًا ولا يخضع لأي رقابة دوائية، وهو ما يخالف بوضوح قرارات هيئة الدواء المصرية التي تشترط ترخيصًا رسميًا لإنشاء أو تشغيل مصانع أدوية.
آلات مزوّرة على الفيسبوك
تواصلت معدّة التحقيق مع تاجر خردة يعرض ماكينة ألمانية لكبس الأقراص على مجموعة فيسبوك تضم 79 ألف مشترك، مدعيًا أنها صالحة لتصنيع مكملات غذائية، ويطلب 180 ألف جنيه مقابلها. الماكينة، وفق قوله، جرى شراؤها من مصنع مغلق منذ الثمانينيات.
سوق سوداء للأدوية المنتهية
تضم مجموعات على فيسبوك وتيليجرام وواتساب مئات الإعلانات لشراء أدوية منتهية، وهو ما تأكد عبر تجربة عملية حين عرضت معدة التحقيق بيع أقراص مضاد حيوي منتهية الصلاحية، فاستجاب أحد التجار وأبدى استعداده لعقد صفقة وطلب كميات إضافية. هؤلاء يعملون عبر وسطاء، ويعيدون بيع هذه الأدوية بعد إعادة تعبئتها وتزييف بياناتها.
شركات تحارب وحدها
بعد اكتشاف نسخة مزيفة من دواء "نيوكلاف"، طبقت شركة "راميدا" بروتوكولًا لمواجهة الغش يتضمن تحليل المنتج المغشوش وإبلاغ الهيئة، إلى جانب تغيير شكل العبوة وتحديث العلامات الأمنية، مثل QR code أو ملصقات الهولوغرام. النسخة المزيفة من الدواء تبين أنها تحتوي فقط على نشا بدلًا من المادة الفعالة "أموكسيسيلين"، بل واستخدمت أصباغًا صناعية وبعض المواد السامة مثل الميثانول.
المقابر المفتوحة... ضحايا الدواء المغشوش
في أكتوبر 2017، توفيت شيماء عباس، عشرينية وأم لطفلة، بعد شهرين من تناول دواء تخسيس غير مرخص اشترته من صفحة على فيسبوك. تقرير الوفاة أرجع السبب إلى احتشاء حاد في عضلة القلب، نتيجة مواد سامة في الدواء. كما يروي المحامي مصطفى عيد تجربته مع دواء تخسيس مغشوش، أدى إلى مشكلات تنفسية مستمرة حتى الآن.
وتقول أمنية، شقيقة شيماء: "البائع قال لها إن الدواء أصلي، لكن بعد الوفاة اكتشفنا أنه غير مسجل لدى هيئة الدواء".