في ظل أزمة مائية متفاقمة وتحديات اقتصادية متزايدة، تجد مصر نفسها أمام معضلة تصدير الأرز، الذي ظل لعقود أحد المحاصيل الاستراتيجية للبلاد.
ورغم إعلان الحكومة استمرار حظر تصديره، تكشف البيانات الرسمية وتصريحات التجار عن واقع مغاير، حيث حصلت بعض الشركات على استثناءات سمحت لها بتصديره إلى عدة دول، ما أثار جدلًا واسعًا حول مدى شفافية هذه القرارات وتأثيرها على السوق المحلي.
الحظر الحكومي ومبرراته
فرضت الحكومات المتعاقبة منذ أوائل الألفية قيودًا على زراعة وتصدير الأرز بسبب استهلاكه العالي للمياه، حيث تقدر الحكومة أن زراعته تستهلك حوالي 25% من إجمالي حصة مصر من مياه النيل، والتي تبلغ 55 مليار متر مكعب سنويًا.
ولهذا السبب، فرضت الحكومة غرامات على التصدير، وصلت إلى ألفي جنيه لكل طن يُصدَّر، حتى اتخذت قرارًا أكثر تشددًا عام 2016 بحظر تصدير الأرز نهائيًا.
مع تفاقم أزمة المياه الناتجة عن بناء سد النهضة الإثيوبي، وارتفاع الطلب المحلي على الأرز، واصلت الدولة سياسة الحظر، مع تحديد مساحات زراعة الأرز سنويًا، وحظر زراعته في بعض المناطق، وفرض غرامات وعقوبات على المخالفين.
أزمة الاستثناءات والتصدير غير المُعلن
رغم هذا الحظر، أظهرت بيانات رسمية نشرها جهاز التعبئة والإحصاء المصري ارتفاع قيمة صادرات الأرز خلال الشهور العشرة الأولى من عام 2024 بنسبة 3808% مقارنة بنفس الفترة من عام 2023، حيث بلغت تسعة ملايين دولار.
وفي شهر أكتوبر وحده، ارتفعت نسبة الصادرات بأكثر من 4527%.
وفي الوقت الذي أكدت فيه مصلحة الجمارك استمرار حظر التصدير، كشف تجار ومزارعون عن وجود استثناءات غير مُعلنة، حصلت عليها شركات محددة، أبرزها شركة "أبناء سيناء" المملوكة لرجل الأعمال إبراهيم العرجاني، بالإضافة إلى "الشركة المصرية السودانية للتنمية والاستثمارات المتعددة" وشركة "اتجاهات" السودانية، التي تمتلكها القوات المسلحة السودانية.
آلية التصدير عبر الشركات المستثناة
وفقًا لمصادر في قطاع الأرز، فإن عملية التصدير تتم عبر منح "تصاريح خاصة" لبعض الشركات، حيث يدفع التجار رسومًا لهذه الشركات مقابل الحصول على تصاريح التصدير.
وأكد أحد التجار أنه يدفع 150 دولارًا عن كل طن لشركة "أبناء سيناء"، التي تتولى تصدير الأرز تحت اسمها، بينما يبيع هو الشحنة إليها.
الرواية الرسمية مقابل الحقائق على الأرض
من جهتها، تصرّ الحكومة على أن صادرات الأرز مخصصة للمساعدات الإنسانية إلى دول مثل فلسطين وليبيا والسودان وسوريا، إلا أن تجار الأرز يؤكدون أن الكميات المصدرة تتجاوز بكثير حدود المساعدات، بل تُباع لدول لا تعاني أزمات إنسانية، مثل تركيا والمغرب والأردن.
عضو مجلس النواب وعضو غرفة الحبوب باتحاد الصناعات، مجدي الوليلي، صرّح بأن التصدير يقتصر على "جهات معينة"، وغالبًا ما تكون على صلة بمؤسسات رسمية مثل وزارة الدفاع، مؤكدًا أن الأمر "غير قابل للنقاش".
إلا أنه عاد لاحقًا ليعترف بأن التصدير توسّع ليشمل دولًا لا تعاني من أزمات، مثل المغرب وتركيا، وهو ما أثار تساؤلات حول طبيعة هذه الاستثناءات ودوافعها.
التأثيرات على السوق المحلي
في ظل تصاعد صادرات الأرز، يعاني المستهلك المصري من ارتفاع أسعاره، خاصة بعد حذف الأرز من البطاقات التموينية في أغسطس 2023.
فبعدما كان المواطن يحصل عليه بسعر 12.5 جنيهًا للكيلو، بات يضطر لشرائه من السوق الحر بأسعار وصلت إلى 35 جنيهًا.
أما الفلاحون، الذين باعوا إنتاجهم في بداية الموسم بأسعار منخفضة، فقد تضرروا بشدة بسبب المضاربة التي قام بها كبار التجار الذين اشتروا الأرز مبكرًا وخزنوه، ليعيدوا بيعه بأسعار مرتفعة بعد تأكدهم من إمكانية تصديره.
التهريب كمسار موازٍ
إلى جانب التصدير الرسمي، كشف تجار ومسؤولون بوزارة الزراعة عن مسارات أخرى لخروج الأرز من مصر، أبرزها التهريب عبر الحدود أو تصديره تحت مسميات أخرى مثل "حبوب غذائية".
وتنتشر هذه البضاعة المهربة في الأسواق الخليجية، حيث يتمتع الأرز المصري بسمعة جيدة نظرًا لجودته العالية مقارنة بأنواع أخرى.