عندما تحدّث دونالد ترامب عن "السيطرة" على قطاع غزّة و"تملّكه" أميركياً، وتهجير أكثر من مليونين من أهله منه، والعمل لتحويله "ريفييرا الشرق الأوسط"، بذريعة الدمار الهائل الذي لحق به، وانعدام إمكانية العيش فيه، لم يكن يتحدّث مطوّراً عقارياً فحسب، ولا حتى رجلاً تحوم شكوك حول علاقات جمعته بالمافيا، بل إمبريالياً وعنصرياً وقحاً، يتقمّص التاريخ الأميركي البغيض، الذي تحاول الولايات المتحدة التبرّؤ أو التطهّر منه.
ومعلوم أن ترامب، ووالده فريد، كانا محلّ دعاوى قضائية من سود أميركيين ووكالات ولائية وفيدرالية في عقدي الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، على خلفية اتهامات لهما بالعنصرية في رفضهما تأجير شقق سكنية في ولاية نيويورك لمواطنين سود.
وفي ثمانينيّات القرن الماضي، حفل الإعلام الأميركي بتحقيقات استقصائية عن الخدمات التي قدّمتها عصابات مافيا أميركية منظّمة لإمبراطورية ترامب العقارية، التي شملت ناطحات سحاب في نيويورك، وكازينوهات في أتلانتيك سيتي في ولاية نيوجرسي، وكذلك في مدينة فيلادلفيا في ولاية بنسلفانيا.
وقد تجدّدت تلك التحقيقات عامي 2015 و2016. وواضحٌ أن ترامب الآن عاجز، أو أنه رافض فكرة التمييز بين أنه رئيس وأنه رجل أعمال ومطوّر عقاري، فكلّ شيء عنده يتعلّق بالربح ومراكمة ثروته، وإطلاقه وزوجته عملتين رقميتين بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، دليل يؤكّد هذا المعطى.
لكن، اختزال الرزايا الأميركية كلّها في ترامب أمر مخلّ منهجياً، فهو كذلك سليل ووريث تاريخ إبادي وعنصري وإمبريالي طويل.
ورغم أن أميركا تتنازعها نظرتان، واحدة تحاول التطهّر من ذلك التاريخ مقرّةً به، وأخرى تحاول التقليل من وطأته أو التبرّؤ من وقوعه، فإن ترامب يجسّد أحد أبشع نماذج الإنكار لذلك الجانب المظلم في التاريخ الأميركي، في الوقت ذاته الذي يعزّزه ويمارسه عمليّاً.
ولعلّ في حديثه المتكرّر عن رغبته في ضمَّ كندا إلى الولايات المتحدة، والاستحواذ على غرينلاند الخاضعة للسيادة الدنماركية، وكذلك قناة بنما، فضلاً عن مطالبته بحقوق في موارد أوكرانيا الطبيعية، بذريعة سداد ديونها العسكرية لبلاده، مُجرَّد أمثلة توكيدية.
مع وصول طلائع الكولونياليين البيض إلى ما أصبح يعرف لاحقاً باسم أميركا، قبل ما يزيد عن أكثر من 400 عام (1607)، بدأ تاريخ مرير من الإبادة للسكّان الأصليين، سواء عبر القتل المباشر والإبادة الثقافية، أو نقل الأمراض إليهم، التي لم يكونوا محصّنين ضدّها، كالجدري، أو الاستيلاء على أراضيهم وتهجيرهم منها، مترافقاً مع استعباد السود الذين جيء بهم مختطفَين من أفريقيا، وتمييز ضدّ المذاهب المسيحية غير البروتستانتية، كالكاثوليك.
وحتى بعد استقلال الولايات المتحدة قبل 250 سنة (عام 1776)، استمرّ كثيرٌ من أشكال الإبادة والاستعباد والتمييز أكثر من قرن ونصف القرن، ولا يزال كثير من صور التمييز مستمرّا بصور وأنماط مختلفة.
الأمر ذاته يمكن قوله عن الإمبريالية الأميركية، التي بدأت منذ عام 1840، ويُزعَم أنها انتهت مطلع القرن العشرين، مع أن الحقيقة غير ذلك، إذ إنها لا تزال قائمة على أساس من "الداروينية الاجتماعية" ومزاعم "الاستثنائية الأميركية".
وكانت الولايات المتحدة قد توسّعت على حساب المكسيك، ثمَّ بعض الجزر والدول اللاتينية، كبورتوريكو وكوبا، وكذلك في المحيط الهادئ، في جزرٍ كهاواي وغوام وسماوا، وسبق أن احتلّت أراضيَ في آسيا، كما في فيتنام والفيليبين، وفي أوروبا، كما ألمانيا، وفي الشرق الأوسط، كما العراق وسورية راهناً. بمعنى أن الحاضر في إطاره العام هو الماضي.
نعود هنا إلى تصريحات ترامب حول قطاع غزّة، الثلاثاء الماضي (4 فبراير 2025)، خلال اللقاء الذي جمعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
لا ينبغي أخذها بمعزل عن الجانب المظلم في التاريخ الأميركي. ورغم أن بعض الإعلام الأميركي يحاول أن يصف فكرة ترامب بالجنون، فإن الحقيقة التي يتغاضى عنها أن الجنون والإجرام صفة متأصّلة في السياسة الخارجية الإمبريالية الأميركية.
يغفل الناقدون الأميركيون لتصريحات ترامب حول إفراغ غزّة من سكّانها وتطويرها عقارياً لأثرياء العالم، أن تدمير قطاع غزّة وشنِّ حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ سكّانه كان بتمكين ودعم كامل من إدارة الرئيس السابق جو بايدن.
ترامب يكمل المهمة فقط، وكلاهما (ترامب وبايدن) سليلا ووريثا ذات التراث الإبادي العنصري الإمبريالي.
في الفترة الممتدّة ما بين 1830 و1850، قامت الحكومة الأميركية بتهجير أكثر من 60 ألف إنسان من السكّان الأصليين من الولايات الجنوبية، إلى "محميات" أُعدَّت لهم في ولاية أوكلاهوما، قطع خلالها هؤلاء، بمن فيهم نساء وأطفال وكبار سنّ ومرضى، 5043 ميلاً (8116 كيلومتراً) سيراً على الأقدام.
عُرِفت تلك الفاجعة الإنسانية في تاريخ السكّان الأصليين بـ"درب الدموع"، إذ قضى كثيرون منهم موتاً من البرد والأمراض والجوع والإرهاق. ارتكبت تلك الجريمة حينها، وهي واحدة من مئات أخرى، بحقّ السكّان الأصليين، على مدى 20 عاماً، بدءاً بإدارة أندرو جاكسون الديمقراطي، وانتهاء بزكاري تايلور من "حزب اليمين".
من ثمَّ، ما يتحدّث عنه ترامب من تطهير عرقي في غزّة، يتسق تماماً مع ذلك التاريخ المتأصّل في الجينة الوراثية الأميركية.
ومن المفارقات، أن ترامب، منذ دخوله البيت الأبيض قبل أقلّ من ثلاثة أسابيع، أعلن الحرب على المدارس والجامعات الأميركية التي تتجرّأ على تدريس ذلك التاريخ القاتم.
ومع أن بايدن كان يزعم إنه يقرّ به، وبمعاناة السكّان الأصليين والسود، في تلك الحقب الأميركية المظلمة، إلا أنه هندس حقبةً إضافيةً سوداءَ في التاريخ الأميركي في قطاع غزّة، تثبت أن الفارق الوحيد بينه وبين ترامب، أن الأخير يسمّي الأمور بمسمّياتها، في حين كان يتظاهر بايدن بالتحضر والدماء تقطر من يديه.