من أنت؟ سؤال قد يبدو للوهلة الأولى سهلاً للغاية، لكنك لو توقفت لحظات وفكرت فستجد من الصعب الحصول على إجابة حقيقية عن هذا السؤال بمثل تلك السهولة. والإجابة عن هذا السؤال هي مرحلة هامة جدًّا في رحلتنا لاكتساب الذكاء الوجداني، فلا بد أن نمر على خطوة رئيسية، مفترق طريق -إذا أردت أن نسميه- يحدد وجهتك وما تريد.. في عملك.. في حياتك.. مع نفسك أو الآخرين، فكيف لنا أن نصل إلى هناك إذا لم نفهم من نحن؟ وهو سؤال قريب بعيد، فهو أقرب ما يكون إليك وبعيدة إجابته عن الكثيرين. وإذا كنت تستعد لاستقبال إجابة من مقالنا فالحق أنك لن تجدها. فلن يستطيع أحد أن يدرك من أنت إلا أنت.. ولكن ما ستجده هو بعض اللافتات (الإشارات) التي ربما قد تساعدك على معرفة نفسك، قبل أن نتحدث عن هذه الإشارات.. اطلع معي على نافذة جوهاري والتي قسمت ما بداخلنا إلى أربعة أقسام: 1- قسم مفتوح: يعرفه الناس عنك وتعرفه عن نفسك. 2- قسم بداخلك: يعرفه الناس عنك ولا تعرفه عن نفسك، ولا شك أننا في حاجة إلى أن نبذل مجهودًا لنعرف ما الذي يعرفه الناس عنا، سواء كانوا يحبونه أم لا يستحسنونه. 3- قسم مختفي: تعرفه عن نفسك ولا يعرفه الآخرون عنك، وأنت في حاجة إلى أن تكشف ما بداخلك للآخرين بما يساعد على تواصلهم معك. 4- قسم خفي: لا تعرفه عن نفسك ولا يعرفه الآخرون، وهو ما تكتشفه في نفسك مع الأحداث، وخاصة المفاجئة منها. دعنا الآن نتجول عند بعض الإشارات التي قد تساعدنا في معرفة أقرب لأنفسنا. اجتمع مع نفسك الإشارة الأولى: أن تتساءل متى كانت آخر مرة جلست فيها مع نفسك جلسة إيجابية؟. وأقول إيجابية؛ لأن ما أكثر الجلسات السلبية التي نجلسها مع أنفسنا.. نلوم فيها أقدارنا.. ونبكي على أطلالنا.. ونخرج بحصون عالية من اليأس تطمس ما كان ساطعًا من أنوار. تحاور مع نفسك، سَلْها ما تحب وما تكره.. حدّد معها أهدافًا سامية وحاول أن تضع خطوات لتنفيذها، حتى لو ظهرت لك غير دقيقة أو دون المستوى الذي تنشده.. جرّب معي هذه الأسئلة: هل أنا راضٍ عما أفعله في الدنيا؟ ماذا أحب.. ماذا أكره؟ مواقف أحب أن أنساها.. مواقف أحب أن أتذكرها. نقاط قوتي وضعفي.. صفاتي. هل أنا شخص مرغوب فيه؟ فقط أذكرك: لا تكره نفسك.. فكيف ستتعامل وتحتوي ما تكره؟ كيف ستلتحم مع نفسك حتى تغيرها للأفضل وتأخذ بيدها إليه؟ من أنت في عيونهم الإشارة الثانية: أن تسأل الآخرين عن نفسك – من أنت في عيونهم؟ هي خطوة أخرى غاية في الأهمية وللبعض غاية في الصعوبة.. ويسمى هذا التقنين في بعض الشركات بـ (360 مرتجع)؛ وذلك لأنه يسأل كل المحيطين بك في العمل، ولكننا سنستفيد منه الاستفادة القصوى ولن نسأل فقط أقران العمل. سنختار عشرة ممن حولنا، من العمل، من الأهل، من الأصدقاء، وننوّع بين القريب والبعيد حتى نستطيع أن نأخذ شريحة كاملة ممن حولنا.. تخيل أن 6 أو 7 من هؤلاء العشرة اجتمعوا على سمة فيك.. هل ستقول متواطئون؟! سَلْهم: ماذا تحب من أفعالي.. وماذا تكره منها؟. متى تحب أن تكون قريبًا مني.. ومتى تحب أن تبتعد؟. هل تتذكر لي موقفًا إيجابيًّا أو سلبيًّا؟. ما هي مهاراتي؟ وكيف أنمِّيها من وجهة نظرك؟. هل ترى أني في احتياجات إلى مهارات أخرى؟ ما هي؟. طريقة تعاملي مع أقران العمل؟. طريقة تعاملي معك أنت؟… إلخ. لا تنسَ أن تعطي ورقة لمديرك واستعد بداخلك لإجابة قد تكون مؤلمة وساعتها تعلم ألا توجه اتهامات لأحد.. هذا سيقول عني كذا لأنه يغير، والآخر يحسد، والثالث يتجاهل، والرابع. استمع لأي إنسان يحدثك عن نفسك.. ولا تضع حواجز بينك وبين ما يقول. عوِّد نفسك ألا تحزن.. ما نفعل هو طريق للسعادة.. هو طريق التغيير المنشود الذي نأمله مع أنفسنا والآخرين. قلّب في قلبك الإشارة الثالثة: تحتاج منا إلى تدريب لبعض الوقت.. ربما لأننا لم نتربَّ عليها في مجتمعاتنا، الأمر ببساطة أن تدخل يدك.. ليس في جيبك، بل في قلبك.. قلِّب فيه كما تشاء، ثم ضع يدك على ما تشعر به.. علَّم نفسك أن تتحدث مع نفسك عن مشاعرك.. واجه نفسك بكلمات واضحة، دقيقة وقصيرة: أنا أحب.. أنا مستاء.. أنا أشعر بارتياح.. أنا اليوم لست في مزاج جيد.. أنا سعيد.. أنا متفائل. فأنت حينما تشعر أن مزاجك ليس جيدًا فإنك ستتجنب التدخل مع أحد في مواجهة حتى تخلص نفسك من هذا الإحساس الذي لا يستسلم له صاحب الذكاء الوجداني. دعني أعطك مثالاً آخر اليوم كان امتحان لوظائف جديدة.. دخل أحد الشباب وأبلى بلاء حسنًا في التخصص الذي تعمل فيه وسألك صاحب العمل عن رأيك فقلت دون تفكير: “لا بأس به، لكن ينقصه بعض الخبرة”.. ما الذي دفعك لأن تعلّق هذا التعليق على هذا الشاب رغم حقيقته؟ تأتي لك الإجابة لأول وهلة: “هذا لأن خبرته ضعيفة فعلاً”.. قلّب ثانية في مشاعرك: “ذلك لأن… لأنني… خفت على منصب”.. هكذا وصلت إلى مشاعرك الحقيقية.. مع كلمات كانت لتمر مثل آلاف غيرها نتفوّه بها كل يوم.
إنسان مختلف صاحب الذكاء الوجداني إنسان مختلف.. يعرف كيف يضع يده على مشاعره.. والآن وقد عرفت ما هي مشاعرك الحقيقية فلا بد أن تأخذ قرارًا.. نعم.. قرارًا واضحًا.. القرار هذه المرة هو أنك ستذهب لأي صاحب العمل فتقول: “على فكرة شاب الأمس كان رائعًا، وقلة خبرته لن تكون عائقًا”. واحد من أعظم الأمثلة في تاريخنا التي مرّت عليّ فيما تعلمت كان موقف سيدنا كعب بن مالك رضي الله عنه وصدقه مع نفسه حينما سأله الرسول ﷺ عن سبب تخلفه عن غزوة تبوك فقال: “والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أسرّ مني حين تخلفت عنك. يتفهم سيدنا كعب بن مالك رضي الله عنه بشفافية ووضوح مشاعره.. ويعلن عنها مهما كلفه ذلك من نتائج والتي كانت سببًا في كل خير.