لم يتحقق الانتصار في معركة حطين بشكل عبثي، وشأن حطين في ذلك شأن جميع المعارك والفتوحات المظفرة التي قادها المسلمون عبر التاريخ الإسلامي، فكما أن للهزيمة أسبابها وعواملها، فللنصر أسبابه وعوامله أيضاً في عقيدة ومنهج المسلمين، فإذا توفرت عوامل النصر وتحققت أسبابه الدينية والدنيوية، كان المسلمون على موعد مع انتصار جديد وفتح كبير يسرّ قلوبهم ويشفي غليلهم، فقد وعد الله تعالى من ينصره من عباده ويعدّ العدة المطلوبة ويأخذ بالأسباب المتوفرة، وعدهم الله بنصرهم والتمكين لهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]
جيل مقاتل في سبيل الله: لم يظهر جيل صلاح الدِّين من فراغ وإنما سبقته جهودٌ علميَّة وتربويةٌ على أصول منهج أهل السُّنَّة والجماعة، وأصبح ذلك الجيل؛ الذي أكرمه الله بالنَّصر في حطِّين تنطبق فيه كثيراً من صفات الطائفة المنصورة، والتي من أهمها:
ـ أنَّها على الحقِّ: وللطائفة المنصورة من ملازمة الحق واتِّباعه ما ليس لسائر المسلمين، وهي إنما استحقَّت الذكر والنَّصر لتمسُّكها بالحقِّ الكامل حين أعرض عنه الأكثرون.
ومن الجوانب البارزة في الحقِّ الذي استمسكت به؛ حتى صارت طائفةً منصورةً ما يلي:
الاستقامة في الاعتقاد وملازمة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومجانبة البدع وأهلها، فهم أصحاب السُّنَّة، وصلاح الدين والمسلمون الذين معه هم الذين قضوا على الدَّولة الفاطمية الشِّيعيَّة الإسماعيلية.
الاستقامة في الهدى والسلوك الظاهر على المنهج النبوي الموروث عن الصَّحابة رضي الله عنهم، والسلامة من أسباب الفسق والريبة والشَّهوة المحرَّمة.
الاستقامة على الجهاد بالنفس والمال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحقِّ على العاملين.
الاستقامة في الحرص على توفير أسباب النصر المادِّية والمعنوية، واستجماع المقوِّمات التي يستنزل المؤمنون بها نصر الله، ولا شكَّ أنَّهم إنما ينتصرون لملازمتهم للجادة المستقيمة من جهة، ولبذلهم الجهد الواجب في تحصيل أسباب النصر من جهة ثانية. وهـذا ما قام به صلاح الدين والقادة الذين معه، وبذل الجهد في تحصيل تلك الأسباب هو في الحقيقة جزءٌ من الاستقامة على الشريعة؛ إذ الشريعة تأمر بفعل الأسباب، واتخاذ الوسائل المادية الممكنة: من الصناعة والسِّلاح والتخطيط والإدارة وغيرها، ولا يتوهَمنّ أحدٌ أنَّ النصر يجيء بدونها؛ لأن تحقيق ذلك هو مقتضيات الاستقامة على أمر الله.
ـ إن تلك الطائفة قائمة بأمر الله: وهـذه الخصيصة بارزةٌ جداً في الوصف النبوي لهـذه الطَّائفة، فهم أمَّةٌ قائمة بأمر الله، واسمهم: “الطائفة المنصورة”، فقد تميَّز صلاح الدين بحمل راية الدَّعوة إلى الله، وإلى دينه وشرعه وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، والقيام على نشر السنة بين الناس بكل وسيلةٍ ممكنةٍ مشروعةٍ، ووظف إمكانات الدولة لذلك، ولدفع الشبهات عن منهج أهل السنة، والردِّ على مخالفيه.
كما كانت دولة صلاح الدين قائمةً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد اللسان والقلب، معارضةً لكل انحراف يقع بين المسلمين؛ أيَّا كان نوعه: سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو علمياً أو اعتقادياً.
ـ إنَّها تقوم بواجب الجهاد في سبيل الله: والطائفة المنصورة جاءت الأحاديث النبوية في وصفهم بأنهم “يقاتلون على الحق” أو “يقاتلون على أمر الله”. وكان صلاح الدين وجيشه قاموا بالجهاد الشرعي في سبيل الله وقتال أعداء الله من الكفار وغيرهم.
ـ إنَّها صابرة: فقد خصَّ الله الطائفة المنصورة بالصَّبر، وقد تسلَّح صلاح الدين وجنوده بالصَّبر الجميل في جهادهم، ولم تستطع القوَّة الظالمة أن تخرجهم عن منهجهم وهدفهم الذي يسعون إليه، ولهـذا وصف الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء القوم بأنهم: “لا يضرهم مَنْ كذَّبهم ولا مَنْ خالفهم ولا يبالون بمن خالفهم”. وهـذه التعبيرات النبوية الكريمة تشير إلى هؤلاء العاملين الذي عرفوا أهدافهم وسلكوا طريقهم، فلم ينظروا إلى خلاف المخالفين وعوائق المخذِّلين ولا تكذيب الأعداء الحاقدين. وكانوا يواجهون كلَّ المتاعب بصبرٍ وثباتٍ ويقين. فهـذه الصفات التي جاءت في الأحاديث النبوية لوصف الطائفة المنصورة قد انطبقت على جيل صلاح الدين الأيوبي.
وكان صلاح الدين يوصي جنوده بالوصايا النافعة، فقد قال ـ رحمه الله ـ ذات يوم: اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم ومنعته، وأنتم تعلمون: أنَّ دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم في ذممكم معلَّقة، والله -عز وجل- سائلكم يوم القيامة عنهم، وأنَّ هـذا العدو ليس له من المسلمين من يصدُّه عن البلاد والعباد غيركم، فإن توليتم -والعياذ بالله- طوى البلاد وأهلك العباد وأخذ الأموال والأطفال والنساء، وعُبِد الصليبُ في المساجد، وعُزل القرآن منها والصلاة، وكان ذلك كلُّه في ذممكم، فإنَّكم أنتم الذين تصدَّيتم لهـذا كلِّه وأكلتم أموال المسلمين؛ لتدفعوا عنهم عدوَّهم وتنصروا ضعيفهم، فالمسلمون في سائر البلاد متعلِّقون بكم. والسلام.
– الاستعانة بالعلماء، واستشارتهم في الحرب والإدارة: كان صلاح الدين يلازم العلماء ويجالسهم ويستشيرهم في الحرب والإدارة، ويستمع إلى نصائحهم ويقدِّرها، وكان يعتمد على بعضهم في إدارة ممالكه، وكان أكثرهم مرافقةً له في السَّراء والضرَّاء وفي حلِّه وترحاله القاضي الفاضل، تأمَّل حديثه وتحليله لأهم أسباب النصر بعد توفيق الله تعالى حين يقول: ما فتحتُ البلاد بالعسكر، وإنما فتحتُها بكلام الفاضل.
فالقاضي الفاضل كان يقدم له الرأي الحصيف والقول السديد والقرار الحكيم، وكان يصدقه في الرأي والحرب، والمكيدة والسياسة والحكم. قال ابن كثير: وكان القاضي الفاضل بمصر يدبِّر الممالك بها، ويجهِّز إلى السُّلطان ما يحتاج إليه من الأموال وعمل الأسطول والكتب السلطانية، وقد لقي صلاح الدين التأييد التام من العلماء والفقهاء، وكان يستشيرهم ويأخذ بآرائهم. وبعد انتصاره الكبير في حطِّين رأى صلاح الدين استكمال الجهاد ضدَّ الصَّليبيين، واستعادة المدن الشامية منهم مَرَّةٌ أخرى، وقد شارك مجموعة من العلماء في هـذه الفتوحات يأتي ذكرهم في حينه بإذن الله. فقد استعان صلاح الدين بالعلماء والفقهاء على إعداد الأمة جهادياً، مُبَيِّناً لهم غاية الجهاد في الإسلام وضرورة الالتزام بها والعمل لها، وقد ساهم العلماء مساهمةً جوهريةً في رفع الرُّوح المعنوية القتالية في حطِّين وغيرها.
– حسن الصلة بالله: كان صلاح الدين كثير العبادة والدعاء والرجاء في نصر الله وعونه، وكان يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحضُّهم على الطَّاعة والعبادة، ويتقدَّمهم في ذلك، ويهيأى لهم الفرصة لتزكية النفوس والانشغال بتلاوة القرآن وتدبُّره وحفظه، وكان حريصاً على صلاة القيام وكثرة الذكر، ويحضُّ أمراءه وجنده على ذلك. فكان رحمه الله يجلس إلى العلماء، ويقرأ عليهم القرآن ويستمع منهم إلى تفسيره، ويجلس إلى أهل الحديث يتفقَّه عليهم فقه الحديث ويستمع إلى الفقهاء والعلماء، وكان يُحْضِرُ العلماء والفقهاء والمفسرين؛ ليعلِّموا الجيش كتاب ربِّهم ويفقهوهم في دينهم ويوثِّقوا صلتهم بربهم. وكان -رحمه الله- يأمر جنوده في الخيام بأن يقوموا في اللَّيل وأن يذكروا الله ذكراً كثيراً، وكان يتفقَّد خيام الجند، فإذا وجد خيمةً غفل أهلها عن القيام والذِّكر، وتلاوة القرآن أيقظهم، وذكرهم بضرورة الإكثار من ذكر الله وعبادته وطاعته. وهـذه الأمور من أهمِّ عوامل النَّصر على العدوِّ .
– اللجوء إلى الله بعد الإعداد: ومن أسباب النَّصر أنَّه كان بعد الأخذ بالأسباب يلجأ إلى الله -تبارك وتعالى- يطلب منه المدد والعون، وكان -رحمه الله- كثير الدُّعاء واللجوء إلى الله في الملمَّات، وكان في دعائه مخلصاً متضرِّعاً. قال القاضي العالم المصاحب له في أسفاره وجهاده عن دعائه وحاله في الدُّعاء، فكان يتصدَّق ويخفي صدقته قبل أن يناجي ربَّه وهو ساجدٌ، فيقول: إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية من نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل. ورأيته ساجداً ودموعه تتقاطر على شيبته ثم على سجادته، ولا أسمع ما يقول. فسرعان ما يستجيب الله دعاءه، ويجعل أمر الصليبيين في اضطراب ويعودون شرَّ مآب بالهزيمة من رب الأرباب.
ـ نجاح العمل الاستخباراتي لصلاح الدين: استطاع صلاح الدين أن يخترق الصَّليبيين استخباراتياً، فقبيل معركة حطِّين تمكَّن صلاح الدين من استمالة زوجة أمير أنطاكية بوهيموند الثالث السيدة سيبل، فكانت لها اتصالات سرية مع صلاح الدين الأيوبي، وكانت تُطْلِعُه على خطط الصليبيين وتحرُّكاتهم أولاً بأوَّل، وذلك في فجر يوم حطين، ويؤكد المؤرخ ابن الأثير هـذه الحقيقة، فيقول: إنَّ أميرة أنطاكية كانت تراسل صلاح الدين وتهاديه، وتعلمه كثيراً من الأحوال التي يؤثر علمها.
الروح المعنوية التي انهارت من حرب الاستنزاف وفي بداية المعركة، والمعارك السابقة التي وجدوا أنفسهم أمام المسلمين أقوياء الشَّكيمة، لا قدرة لهم على دفع الهزيمة والأذى.
– فسق هؤلاء الصليبيين وفجورهم، وانتشار الدَّعارة فيهم، وأنَّ قسماً كبيراً منهم جاء للنَّهب والسَّلب والسَّفك ظلماً. إنَّهم لا أخلاق لهم والنَّصر منهم بعيد على المؤمنين الموحِّدين المجاهد
المجاهدين. وفي هـذا يقول جوستاف لوبون في كتابه: “حضارة العرب” ومما يلفت النظر: أنَّ هؤلاء الغزاة لا أخلاق لهم وليس عندهم قيم، بل كانوا فجرةً أشراراً، منحلِّين فاسقين، وهؤلاء أعداء الحضارة وقتلتها؛ إذا لا يُرى منهم في أرض الميعاد غير الزَّنادقة والملحدين واللصوص والزُّناة والقتلة، والخائنين والمهرِّجين والرهبان الدُّعار والراهبات العواهر.
ـ رأيُ أبي الحسن النَّدوي في سرِّ انتصار صلاح الدين: ألقى الشيخ النَّدوي كلمة في رابطة العالم الإسلامي جاء فيها: إنَّ الحل الوحيد لقضية فلسطين أن يبرز صلاح الدين على مسرح القضية الفلسطينية وعلى مسرح الجهاد الإسلامي مرَّةً ثانية. ماذا كان سِرُّ انتصار صلاح الدين الأيوبي الانتصار الباهر الذي حيَّر العالم وغيَّر مجرى التَّاريخ؟ إنما السِّرُّ: أنه كان مسلماً مؤمناً محمَّدياً، لا يعرف غير لغة القرآن، ولا يعرف غير لغة الإيمان، ولا يعرف غير لغة الحنان، والمسلمون ما زالوا، ولا يزالون… إنَّ المسلمين إلى هـذا الوقت؛ وإن كانت المادِّية الرعناء، والتربية العصرية قد فعلتا فعلتهما؛ فهم لا يفهمون غير لغة القرآن.
إنَّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ومهما تعدَّدت لغاتُهم ومهما فاق ذكاؤهم، ومهما فاقت ألمعيتهم وعبقريتهم؛ فإنهم إلى الآن لا يفهمون إلا لغة محمَّد -عليه الصلاة والسلام- الذي آمنوا به كنبيٍّ خالد، وكرافع علم الجهاد المقدَّس. إنَّهم لا يفهمون غير لغة القرآن، خاطِبوا المسلمين بلغة القرآن أيُّها الإخوان لا بلغة السياسة، أثيروا فيهم الحنان والإيمان بكلمة الجهاد، بكلمة الحنين إلى الشَّهادة، إنهم لا يزالون يحسِّون: أنَّ فيهم هـذه اللغة. إنما كان سرُّ سيطرة صلاح الدين على القلوب والأرواح في أنَّه فهم هـذا السِّرَّ. إن المسلمين لا يندفعون إلا بدافع الجهاد، فجمع تحت رايته الإيمانية أشتاتاً من القيادات، وضروباً وأنواعاً من الشعوب، واستطاع أن يوحِّد كلمة العالم الإسلامي الممزَّق المتشتِّت المنقسم على نفسه. كيف استطاع أن يجمع هـذا العالم المترامي الذي تعدَّدت عناصره وتعدَّدت ثقافاته وتعدَّدت مذاهبه الفقهية؟ وكيف استطاع أن يوحِّد العالم الإسلاميَّ في هـذه الفترة الحالكة العصبية تحت راية محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام؟ لم يرفع راية القومية العربية. اسمحوا لي أن أقول: أنا هنديُّ الأصل، أنا هنديُّ الثَّقافة، أنا رجلٌ ولدت ونشأت في الهند، ولكن أؤمن بمحمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، وأؤمن بالقرآن.
إنَّ هناك قلوباً تعدُّ بالملايين تهفو وتصبو إليكم، وتستهين في سبيلكم بأجسامها وحياتها وسلامتها، إنَّ مذبحةً كبيرةً وقعت في الهند في أحمد آباد في مدَّةٍ قريبةٍ، وماذا كان السبب؟ ذلك لأجل التجمُّع الإسلامي الكبير الذي حصل تأييداً لقضية فلسطين، إنَّما وقعت هـذه المجزرة ووقع هـذا الاضطراب الطَّائفي الهائل؛ لأنَّ المسلمين في أحمد آباد تجمَّعوا على بعد الدار وحيلولة البحار، وعدم معرفتهم للغة العرب، تجمَّعوا هـذا التجمُّع الخالد التاريخي؛ ليدافعوا عن قضية فلسطين. وذلك برهانٌ ساطع على أنَّ هنالك قلوباً مخلصةً، لا يعرف مدى إخلاصها إلا الله تبارك وتعالى، إنها قلوب مؤمنةٌ صادقةٌ لا تعرف لغة السياسة، ولا تعرف لغة اللياقة، إنما تعرف الإيمان والحنان، إنما تعرف لغة القرآن، فأنتم تملكون ثروةً لا تملكها أمريكا ولا تملكها روسيا، تلك ثروة الإيمان، تلك ثروة الإيمان الدَّافق.. إن هـذه الثروة موجودةٌ، ولكنها تحتاج إلى إثارةٍ، تحتاج إلى تحريكٍ، تحريكٍ صادقٍ مؤمن.