بعد أن ضعفت الخلافة الإسلامية وتكالب عليها الأعداء من كل مكانٍ، وأصبح لا شغل للحكام إلا الصراع على الكُرسي، كان لا بُد من ظهور المنهج التربوي مع نشأة جماعة الإخوان المسلمين التي وقفت أمام المؤامرات الداخلية والخارجية في سبيل الحفاظ على مقدّرات الأوطان، حيث اتخذت من هذا المنهج حائط صدٍّ ضِدَّ ألاعيب الغرب، وفتور الشرق.
ولم يستطع الأزهر الشريف أن يُقاوم حالات الحداثة والتغريب التي جرفت الأمة، رغم خروج حالات فردية منه تدعو إلى التمسّك بالدين، ووضعت منهجًا تربويًّا علّها تنجح ويعلو نجمها في السماء، لكن لم يكتب لها الديمومة لانصراف أصحابها عن متابعةِ وتعهّدِ الأفراد بالتربية، ومنهم الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا.
نشأة المنهج التربوي عند الإخوان المسلمين
وقد أدرك الإمام الشهيد حسن البنا منذ صغره ما آلت إليه الأمة الإسلامية من وضع مأساوي، فحلم بإنشاء المنهج التربوي الذي يُمكّنه من تربية جيل إسلامي ينهض بالدين ويقاوم التحديات، وكان ذلك حينما طلب منه معلمه أن يكتب أمنيته في موضوع تعبير، فقال: “هو أن أكون مرشدًا معلمًا، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار ومعظم العام، قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة” .
وكانت المناهج التي وضعها الإمام حسن البنا واقعيّة، فيذكر الدكتور يوسف القرضاوي عنها: “لا تضع كل اهتمامها في الناحية الروحية أو الخلقية التي يُعنى بها المتصوفة والأخلاقيّون، ولا تقصر كل جهودها على الناحية الفكرية التي يهتم بها الفلاسفة والعقليون، ولا تجعل أكبر همها في التدريب والجندية كما يصبغ المصلحون الاجتماعيون، إنها في الواقع تهتم بكل هذه الجوانب، وتحرص على كل هذه الألوان من التربية، ذلك أنَّها تربية للإنسان كل الإنسان، عقله وقلبه وروحه وبدنه، خلقه وسلوكه، كما أنها تعد هذا الإنسان للحياة بسرَّائها وضرّائها، سلمها وحربها وتعده لمواجهة المجتمع بخيره وشره، حلوه ومرّه».
ويقول عبد الرحمن البنا عن طفولة الإمام الشهيد: “كنا نعود من المكتب فتَتلقفنا يد الوالد الكريم، فتعدنَا وتصنعنا، وتحفظنا دروس السيرة النبوية المطهرة وأصول الفقه والنحو، وكان لنا منهاج يدرسه لنا الوالد الكريم” ..
بداية المنهج التربوي للإخوان
وبدأ سعي الإمام حسن البنا إلى إنشاء المنهج التربوي القويم مُنذ الصغر، فعندما دخل المدرسة الإعدادية شارك في (جمعية الأخلاق الأدبية) وبرز فيها، وأصبح رئيسًا لمجلس إدارة هذه الجمعية التي كانت لائحتها تدعو إلى مكارم الأخلاق، وتُغرّم مَن يخطئ في حق إخوانه مبلغًا من المال يُنفق في أوجه الخير ".
ثم كانت (جمعية الحصافية الخيرية)، التي زاولت عملها في ميدانين مهمين، الأول: نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، والثاني: مقاومة الإرسالية الإنجيلية التبشيرية التي هبطت إلى البلد واستقرت فيها..
لم يتوقف منهج التربية عند هذا الحد، لكن جاء الدور العملي بعد هذا الاستعداد العلمي بالخروج للوعظ في المقاهي، ويصف البنا هذا الأمر بقوله: وأعتقد أن هذا الجمهور أكثر استعدادًا لسماع العظات من أي جمهور آخر، حتى جمهور المسجد نفسه، لأن هذا شيء طريف وجديد عليه، والعبرة بحسن اختيار الموضوع فلا نتعرض لما يجرح شعورهم ..
نشأة الجماعة والمنهج المنظم
تحقق حلم الإمام البنا من تكوين جيل يفهم ويترجم التعاليم الإسلامية بمفهوم عملي واقعي، إلا أنه ظل يتعهده بالمناهج التربوية التي تُحافظ على كينونة الفرد ونسيج الجماعة.
فما إن نشأت الجماعة وأصبح لها مركز حتى سعى لتغليب المناهج التعليمية في المدارس التي أنشئت في الإسماعيلية، مثل (معهد حراء) و(مدرسة أم المؤمنين) للبنات، حيث وضعوا لها مناهجَ وطرقًا تتناسب مع المنهج التربوي الإسلامي، فكانت تتماشى مع مواقيت الصلاة، فتبدأ في وقت مبكر وتَنتهي الفترة الأولى قبل صلاة الظهر، حيث يُؤدي التلاميذ جميعًا الصلاة مع الجماعة في المسجد، ويعودون بعد الغداء وقبيل العصر ليؤدوا الصلاة في جماعة أيضًا..
واستمرت المدارس تعمل بالمناهج حتى جرى استحداثها بمنهج (مدارس الجمعة)، حيث تضمن منهاج تلك المدارس التربية الروحية، والثقافة العامة، والتربية الدينية..
كانت المناهج التعليمية تختلف عن المناهج التي وضعها الأستاذ البنا للجماعة، فقد حدّد الإمام الشهيد خطواته الانتقالية في البلوغ بدعوته إلى كل الناس بدأ من التعريف بها، ثمّ التكوين والتربية حتى تتحقق في نفوس المجتمع، فيتكون الفرد المسلم، ثمّ الأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم، وقتها يترك المرحلة الأخيرة للمجتمع أن يقوم بالتنفيذ سواء من انتخاب الحكومة المسلمة والحاكم المسلم.
وقد كانت البداية التنظيمية لمنهج الجماعة في مجلس شورى الإخوان المنعقد في بور سعيد في 4 و5 شوال 1352هـ، الموافق 19 و20 يناير عام 1934م، حي
حيث اقترح الأستاذ محمد أفندي شهاوي أن يُعنى مكتب الإرشاد بمناهج التعليم العام والخاص بمدارس الجمعية ليلية ونهارية، وأن يُفكر في افتتاح فصل لتمرين المدرسين تمرينًا خاصًّا في الإجازة الصيفية بالقاهرة، وأن تؤلف رسائل يُمكن الرجوع إليها في المحاضرات والدروس العامة.
أمّا الأستاذ محمود عبده فاقترح أن يُخصص مكتبُ الإرشاد معهدًا يتربى فيه الإخوان المسلمين على مبادئ الأخوة عمليًّا بنفس مكتب الإرشاد، وذلك بأن ينتدبوا من دوائرهم بطريقة دورية في كل دورة عددًا صغيرًا معينًّا، ويمكث هذا العدد وقتًا محددًا مناسبًا حتى يستفيد من وجوده بالمكتب ويتمرن على الإرشاد والدعوة (9).
أخيرًا
إن جماعة الإخوان المسملين، ارتأت أنّ التغيير من الأفضل أن يجري من خلال المنهج التربوي الذي اتخذته أساسًا لها في الدعوة إلى الله – تبارك وتعالى – مُنذ البداية، واعتبرت أن التربية هي طريق نهضة الأمة وعودتها إلى أداء دورها والاضطلاع بمهمتها في إنقاذ البشرية من ضيق التصورات إلى سعة الإسلام وشموله.
ولقد كانت الحركات الإسلامية التي تزامنت مع دعوة الإخوان على عكس هذا النهج والرؤية، حتى إن كانت غايتها واحدة وهي إرضاء الله سبحانه والتقرب إليه، فالجميع اختلف في كيفية تحقيق ذلك، وكلٌّ له وسائله التي اقتنع بها وعمل لها، فارتضى البعض بالتغيير الذاتي الفردي في النفوس، وآخرون ذهبوا إلى أنّ التغيير المعرفي والثقافي والانكباب على العلم وتعلمه سيؤدي حتمًا إلى تغيير النفوس.
ورأت طائفة ثالثة أن التغيير لن يكون إلا بالقوة، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، لكن أصحاب هذا الرأي بعد ما رأوا ما أحدث ذلك من فوضى وقتلى بغير ذنبٍ، ووقفوا على فساد هذا الرأي بعد سنين من إراقة الدماء، عمدوا ثانية إلى الدعوة والتربية.