وصلنا الآن للمحطات الأخيرة في مذكرات "ابن القرية والكتاب.. الجزء الرابع" للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي، فبعد مشوار من العطاء زار فيه العلامة معظم دول الشرق الأقصى والأدنى حاملا هم الدعوة الإسلامة ومدافعا عنها، وداعما لكل الحركات الإسلامية لا يخشى في الله لومة لائم، ومدافعا عن ثورات الشعوب ما جعل دولة كـأمريكا تمنعه من دخولها بسبب موقفه الشامخ المؤيد للقضية الفلسطينية والداعم لحركات المقاومة ضد المليشيات الصهيونية وخاصة حركة حماس، اليوم نستكمل أبرزما اختتم به مجلدات سيرة ومسيرة عطرة.
تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
من أكبر المؤسسات التي شارك الشيخ في تأسيسها كان تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حيث قال عنه: "فقد تشكّلَ الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في عام 2004 من قِبَل علماء من أصحاب العِلم والخبرة. بات الاتحاد في وقت قصير أحد أكبر الاتحادات من هذا النوع في العالم العربي والإسلامي على حدّ سواء وذلكَ بعدما ضمّ تحتَ لوائه أكثر من 90 ألفًا من عُلماء المسلمين من مُختلف الطوائف بما في ذلك السنة، والشيعة، والإباضية".
ترأس تأسس العلامة القرضاوي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين منذ لحظاته الأولى في عام 2004 م، لكن في 7 نوفمبر 2018م، ترك هذه المسؤولية ، لأحمد الريسوني ، وله عدد من النواب منهم مفتي عمان الشيخ أحمد الخليلي.
وعضوية الاتحاد مفتوحةٌ أمام العلماء الذين تخرجوا من جامعات الشريعة والحاصِلين على شهادة عالية في الدراسات الإسلامية منْ مختلف الجامعات ذات الصلة. يقبلُ الاتحاد كذلك عضوية الذين لديهم حضور في علوم الشريعة والحضارة الإسلامية من خلال كتاباتهم في هذا المجال. حسب موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فإنّ الاتحاد لا يتبعُ أي دولة أو جماعة أو طائفة كما أنّه لا يُعادي أي حكومة بل يسعى إلى فتح نوافذ التعاون من أجل الخير للإسلام والمسلمين.
القرضاوي وثورة يناير
يقول القرضاوي: أتيحت لي زيارة مصر وأن أخطب جمعة النصر والالتقاء بالعديد ممَّنْ شاركوا في صنع الثورة من أول يوم، إلى أن حقَّق الله النصر، وحدَّثوني بصراحة وصدق، وكيف مرَّت عليهم ساعات كاد يصيبهم الإحباط، وكيف كانت كلماتي وبياناتي وخطبي وأدعيتي ومواقفي تمدُّهم بعزائم ونفحات وبيِّنات، تشدُّ أزرهم، وتسند ظهرهم، وتقوِّي حججهم، وتفتح لهم أبواب الأمل والرجاء.
ومما ذكروه لي ما رأوه بأعينهم في يوم الجمعة، الذي أعلنتُ قبله فتواي بفرضيَّة ذهاب كلِّ مسلم لا عذر له إلى ميدان التحرير؛ لمساندة إخوانه هناك، وتقوية ظهورهم، بعد الفتاوى الشهيرة التي حاولت صرف الناس من حولهم، وصد الشباب عنهم، وكيف شاهدوا أثر ذلك، منذ الليل يأتيهم الناس من كلِّ فج عميق، حتى صلاة الجمعة، وكان هذا فتحا من الله انجلت به غشاوة الإحباط والقنوط.
وفي يوم الجمعة 11 فبراير- وقد أصاب الناس اليأس بعد خطاب مبارك- حين شاهدنا وسمعنا خطبتك في الشاشات الموزَّعة في الميدان، وأنت تقسم إن الثورة منتصرة، {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:172، 173]، دخل علينا يقين أن الثورة غالبة.
القرضاوي والربيع العربي
وككل الحركات التاريخية لا تنتظر أشخاصا ليوجّهوها أو يقودوها، بل تنظر المثقفين، والفقهاء، والمفكرين،فالربيع العربي حركة جماهيرية، أدت إلى نتائج في الفكر، والممارسة على الجميع، وعلينا الإقرار بأن القرضاوي دعم جميع الحراكات الثورية وسعى بخطواته الثمانينية، لدعمها حتى أجهده ذلك الأمر.
وللشيخ يوسف مواقف داعمة لثورات الشعوب العربية بعد عام 2011، بما في ذلك الثورة السورية، حيث ناصر الشعب السوري في الأيام الأولى لها ودعا إلى دعم السوريين بالمال والسلاح في مواجهة آلة العنف التي استخدمها النظام.
وأشاد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي بثورة الشعب التونسي التي قادت إلى خلع الرئيس زين العابدين بن علي، ودعا إلى إكمال المسيرة "وإسقاط بقية رموز النظام بعد أن سقط الطاغية".
وقال القرضاوي "بعد أن سقط الصنم الأكبر هبل، يجب أن تسقط بقية الأصنام المحيطة به من اللات والعزى، وبقية الخدام الذين ينتمون للنظام الذي عانى منه التونسيون سنوات طويلة".
كما أثنى العلامة الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على ثورة ليبيا "المباركة"ودعا جميع أبناء الشعب الليبي للانضمام إليها، مقسما أنها ستككل بالنصر إن شاء الله مثلما انتصرت ثورتا تونس ومصر، ووصف القذافي الذي يرتكب مجازر ضد شعبه بأنه "مجنون عظمة فقد عقله".
القرضاوي وانقلاب مصر
وبعد الانقلاب الغادر على الرئيس الشرعي الدكتور محمد مرسي 2013، دعا رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي جموع الشعب المصري للنزول إلى ساحة رابعة العدوية وغيرها من الميادين "ليقفوا في وجه القتلة المجرمين"، محملا وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي المسؤولية عن قتل المتظاهرين السلميين المناهضين للانقلاب
وقال الشيخ يوسف القرضاوي -في كلمة وجهها إلى الشعب المصري حينها- "إنني أدعو المصريين جميعا، كل مصري حر أن يأتي إلى رابعة العدوية بكل أسرته ويعتصم ولا يخاف، أدعوهم لأن يخرجوا من بيوتهم بكل شجاعة ليقفوا أمام هؤلاء القتلة المجرمين".
القرضاوي يرد على من شكك في الربيع العربي
بعد النكبات المتتالية التي منيت بها الدول العربية من انقلاب على ثوراتها وانتكاسات خلقت حالة من التشاؤم، إلا أن الشيخ القرضاوي ظل ثابتًا على ما بدأه من دعم الثورات وينافح عنها في ظل من كان يقول "دمرتم أوطانكم بخروجكم على الحكام"، ويقول القرضاوي في هذا السياق إن الأمة الإسلامية تحتاج إلى "إعادة تأهيل لتحرير الأوطان"، وأوضح أن ما جرى في "الربيع العربي أحبطه الغرب الذي يدير المنطقة حاليًا ويثير فيها القلاقل".
الوقوف ضد الإمارات والسعودية
بعد مساندته الواضحة والجلية لنظام الحكم في قطر، تم الهجوم على الشيخ يوسف القرضاوي على خلفية الحصار السعودي الإماراتي البحريني المصري لدولة قطر، فقد كان أحد أبرز المستهدفين من إعلام هذه الدول، فتم وضعه على "لائحة الإرهاب" وبدأت القنوات والمواقع الاستهانة والاستهزاء بالشيخ واتهامه بالإرهاب، ليرد القرضاوي في تغريدة على صفحته في موقع تويتر، "حملنا على عاتقنا في العقود الماضية مقاومة الميل نحو التشدد والتطرف الآتي من هناك، والذي يحدث الفوضى على الساحة الإسلامية. واليوم نوضع على قوائم الإرهاب؟!".
حكم بالإعدام
وتعليقا على حكم الإعدام الذي أصدره قضاء الانقلاب بحقه قال سماحة الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، إن قضية اقتحام السجون لفقها رجال الأمن لإحداث فوضى في مصر، واصفا حكم الإعدام الذي صدر بحقه يوم السبت بأنه لا قيمة له.
وأضاف القرضاوي، الذي يعتبر المرجع الروحي لجماعة الإخوان المسلمين، أن القضايا التي تعرض على القضاء المصري "لا نعيرها اهتماما فأحكامها خارجة عن العقل والقانون."
وأشار في كلمة له على قناة الجزيرة، تعليقا على الحكم الصادر بحقه، إلى أن "القضاء المصري كان في السابق مفخرة وللأسف أصبح الآن مهزلة"، مشيرا إلى أن الإعدام لا يُستحَق إلا لمن قتل إنسانا عمداً.
كما أكد على أنه بحق الناس أن تثور على الظلم و "من واجبنا الدعوة إلى ذلك" مشيراً إلى أنه ينبغي أن يكون لدى الشعوب التي استبدّ بها حكامها أمل في الانتصار.
وفاة القرضاوي
ونصل هنا لنهاية الرحلة بوفاة الشيخ يوسف القرضاوي في 26 سبتمبر 2022، بعد عقود من العمل من أجل قضايا الأمة، وبعد أن كوّن إرثا كبيرًا في العالم الإسلامي نتيجة مواقفه المبدئية الثابتة منذ دراسته الثانوية يوم أن تحدى المستعمر الإنجليزي في مصر حتى يوم وفاته، فلا أحد ينكر مواقفه السياسية الواضحة والثابتة، إضافة لغزارة إنتاجه العلمي وما تضمنه من نظرة وسطية معتدلة ترجع للقرآن والسنة مع عدم إهمال اجتهادات العلماء خلال العصور والتراث المذهبي، ثم ثباته في وجه تمييع الدين ووقوفه في وجه تيار التغريب، وهذه الأمور مجتمعة جعلت مكانة القرضاوي في العالم الإسلامي لا تدانيها مكانة، فرحم الله العلامة الشيخ يوسف القرضاوي.