كان الخروج من القاهرة بمعجزة كبيرة انتظرها الشيخ العلامة يوسف القرضاوي، فكما تحدثنا سابقا عن المحن والاضهاد الذي لازمه بعد الخروج من السجن الحربي، ورفض تعيينه بالأزهر، إلى أن يسر الله ذلك، ثم كانت فرحة الزواج ورزقه بالابنتين، فألا حسنا لخروج القرضاوي من مصر وبدء فصل جديد في نشر الدعوة بشكل بحرية ودون تضييق أمني، وهو ما سنتناوله اليوم في استكمال مذكرات العلامة الدكتور يوسف القرضاوي "ابن القرية والكتاب.. الجزء الثاني".
الامتحان من أجل الابتعاث للبلاد العربية
يقول الدكتور القرضاوي: "كان من حقنا بعد مضي ثلاث سنوات علينا في العمل: أن نتقدم بطلب ليكون لنا حق الابتعاث أو الإعارة لبعض البلاد العربية التي تطلب مدرسين لمدارسها أو معاهدها من الأزهر. وما إن اكتملت لنا مدة السنوات الثلاث - منذ بدء تعييننا في الأوقات - حتى تقدمنا بهذا الطلب، لنلحق بالمعارين إلى السعودية والكويت وغيرهما. وبخاصة أننا قد تأخرنا في التعيين، وفي حاجة ماسة إلى سند مادي يشد ظهرنا في مواجهة مطالب الحياة، وكل منا يريد أن يكون له بيت يملكه، لا مجرد شقة يستأجرها، وأن يكون له قدر من المال يدخره لمفاجآت الحياة.
وأذكر هنا: أن اللجنة التي امتحنتني كان على رأسها أستاذنا الشيخ محمد يوسف الشيخ الأستاذ بكلية أصول الدين، وأستاذ العقيدة وعلم الكلام والمنطق، الذي كانت له شهرته في التدريس في الكلية، وكانت اللجنة تمتحن المتقدم في القرآن الكريم وفي أسئلة عامة في العلوم الإسلامية.
فقد منحتني اللجنة أعلى درجة نالها ممتحن، وكنت أول المتقدمين في هذا الامتحان؛ ومن ثم كان من حقي أن أختار أي بلد أحب من البلاد التي يبعث إليها الأزهريون. وكان أفضل بلد يختاره الأزهريون عادة هو «الكويت»، فقد كانت الكويت تعطي أعلى الرواتب للمعارين إليها".
اختيار قطر والمنع من السفر إليها
ويضيف: "لكني لم أختر الكويت، بل اخترت «قطر»، ولم يكن لقطر شهرة في ذلك الوقت، ولا يرغب المعارون فيها كغيرها، فقد كانت تخطو الخطوات الأولى في سلم الترقي الحضاري، وكانت رواتبها أقل من غيرها، ولكن لأن الشيخ عبد الله بن تركي المسئول عن العلوم الشرعية فيها كان قد طلبني من قبل من وزارة الأوقاف، ولا يزال حريصًا على استقدامي إلى قطر. فكان من الواجب أن أبادله ودًّا بود، وأقابل تحيته بمثلها أو أحسن منها".
وأشار الدكتور يوسف إلى العديد من العراقيل التي واجهته قبل السفر إلى الدوحة، حيث أوضح: لكن بدت هنا عقبة لم أكن أتوقعها، ولم تخطر لي على بال، وهي أن أستاذنا الدكتور محمد البهي رشحني لبلد آخر، هو المملكة الليبية، فقد كان للأزهر هناك معهد يتبعه اسمه: «معهد القويري» بمدينة مصراطا، وكان شيخ هذا المعهد يعين من الأزهر، ويكون رئيسًا للبعثة الأزهرية، وكان الأزهر هو الذي يدفع رواتب المبعوثين إلى ليبيا. وكان رئيس البعثة الأزهرية في ليبيا على غير هوى الدكتور البهي، وهو محسوب على الشيخ المشد، وقد أرسل إليه الدكتور البهي بتعليمات فلم ينفذها كما ينبغي، لذا أراد الدكتور البهي أن يتخلص من هذا الرجل، ويبعث مكانه شخصًا يعتقد أنه سيملأ مكانه وزيادة، وسيكسب رضا الشعب الليبي وثناءه، فلأجل ذلك حرص على أن يرشحني لهذا المنصب، ولكني اعتذرت برفق لأستاذنا الدكتور البهي، وقلت له: إن بعثة ليبيا لا تنفعني بحال؛ لأن رواتب مبعوثيها من الأزهر، وهو يعطي ثلاثة أمثال الراتب، وأنا لا زلت في أوائل الدرجة السادسة، وراتبي جد محدود، فمعنى هذا: أن راتبي سيكون نحو سبعين جنيهًا!!.
وكان منطقي قويًّا مبررًا، فلم يملك أمامه الدكتور أن يقول شيئًا، ولكنه يظهر - والله أعلم - أنه تأثر بهذا الموقف مني، وأنه كان يتوقع أن أستجيب له فيما أراده، وخصوصًا بعدما قدم لي من إكرامات في صور شتى، ولكن كانت هذه البعثة غير ملائمة لي على كل المستويات، ابتداءً من المستوى المالي، ثم هي في بلد ليس عاصمة البلد الذي سنذهب إليه، ثم ما ذنبي أنا أن أدخل في تصفية حسابات بين الدكتور البهي والشيخ المشد، وعلاقتي بكل منهما في غاية الجودة؟
ولقد حضر إلى مصر في الإجازة الصيفية الشيخ عبد الله بن تركي من قطر، وقابلته أنا والأخ أحمد العسال، وكان لقاءً علميًّا حيًّا، طرقنا فيه موضوعات في العقيدة والفقه والتربية، وسر به الشيخ ابن تركي، وطلبنا رسميًّا من الأزهر.
ومضينا نتخذ الإجراءات للبعثة، ونهيئ الأسباب للسفر القريب، واستخرجت جواز السفر لي وللعائلة، ولكني فوجئت بما لم يكن في الحسبان، فقد مضت أمور أخي العسال بلا عقبات ولا اعتراض من أحد، أما أنا فقالوا: إن جهات الأمن معترضة عليك، وسألنا عن سبب الاعتراض، فلم نجد جوابًا، وطلبت من الدكتور البهي أن يسأل مكتب السيد كمال رفعت، ومديره السيد عليّ إمبابي الذي كان دائم الصلة بمكتب الدكتور البهي، وكانت إشارته حكمًا، وطاعته غنمًا، وتوجيهاته لا ترد ولا تناقش، وكل هذا لم يجد شيئًا.
وظل الشيخ عبد الله بن تركي يرسل البرقيات تلو البرقيات لتسهيل إعارتي إلى حكومة قطر، ولا من سميع أو مجيب، وقد أخبرني بعض الرجال في إدارة الأزهر، ممن لهم صلات بجهات الأمن: أن الذي حال بيني وبين السفر إلى قطر هو الدكتور البهي نفسه، وأنه هو الذي أوعز إلى جهات الأمن أن تمنعني، وذلك عندما سأله رجال الأمن: هل تضمنه؟ فكان جوابه: لا. وأن الدكتور البهي فعل ذلك، عقوبة لي على رفضي الاستجابة لرغبته في الذهاب إلى ليبيا شيخًا لمعهد القويري هناك.
ولكني لم أصدق هذا الكلام، وأنا أستبعد هذا على الرجل وحسن علاقته بي، ولا أسيء به الظن إلى هذا الحد. وإن كنت قد لاحظت أنه ساءه موقفي، وليس من اليسير عليَّ أن أتهم رجلًا عاملني طوال مدة العمل معه معاملة منقطعة النظير، ولم أر منه قط ما يسوءني، بل رأيت منه كل ما فيه تكريم وإعزاز لي، وقد ذكرت ذلك فيما مضى.
وقد قال لي الأستاذ محمد مرسي مدير مدرسة الدوحة الثانوية حينما لقيته في الصيف المقبل بعد رفع الحظر عن سفري: من الخير أنك تأخرت هذه السنة؛ لأنك ستأتي هذه السنة قطر مديرًا للمعهد الديني، تملك قرارك بدون معارضة ولا تعطيل، ولو جئت في العام الماضي، لكنت وكيلًا للمعهد، وكنت ستتعب مع المدير الموجود.
وعلى كل حال، لا أملك إلا أن أدعو للدكتور البهي بالمغفرة إن كان قد فعل ذلك. فما هو إلا بشر يصيب ويخطئ، وقد قالوا: لكل عالِم هفوة، ولكل جواد كبوة، ولكل سيف نبوة! والمهم أن تغلب حسنات الإنسان سيئاته".
الذهاب إلى الدوحة
يقول العلامة بعد أن وافقت الجهات الأمنية في مصر على سفري معارًا إلى قطر، انزاحت العقبة الكأداء التي كانت تقف في طريقي دائمًا، فقد وقفتْ في طريق تعييني في معاهد الأزهر من قبل، كما وقفت في سبيل تعييني خطيبًا بالأوقاف، ووقفت في سبيل سفري إلى قطر. والحمد لله على كل حال.
العودة للذي الأزهري
وكان عليَّ أن أهيئ الزي المناسب، وهو الزي الأزهري الذي ألفته وألفني مدة طويلة، ثم قهرتني الظروف الاجتماعية والاقتصادية على أن أخلعه، حين عُيّنتُ بمدارس الشرق الأوسط الخاصة بالزمالك. والآن لم يعد هناك مانع من العودة إليه، بل هناك مقتض لذلك. فهو الملائم لعلماء الأزهر المبعوثين، فعدت إليه مختارًا، وقد قالوا في الأمثال: من فات قديمه تاه. وهذا يقال في الماديات والأدبيات على السواء".
العمل بالمعهد الديني
كان اتفاق الشيخ ابن تركي معي منذ التقينا في مصر، على أن أتسلم إدارة المعهد الديني الثانوي في قطر، خلفًا عن مديره السابق فضيلة الشيخ الدكتور عبد الغني الراجحي، الذي تسلم إدارته لسنة واحدة، هي كل عمر المعهد الناشئ، وكان من فضل الله تعالى عليَّ، حتى لا أبدأ حياتي بصراع لا ضرورة له، وأنا أحب أن أعمل أبدأ في سلام وهدوء وسكينة تعين على العطاء والإنتاج.
وقد عينت براتب قدره (1475) روبية «أول راتب السنيار»، ورغم أني مدير لم يكن لي راتب المدير، ولا بدل الإدارة، مثل مدير مدرسة الصناعة مثلًا، ولكني رضيت بهذا، فقد كان خيرًا وفضلًا من الله ونعمة.
مشاكل البدايات
وانتقل الدكتور إلى الحديث عن المشاكل التي واجهته في بداية العمل منذ اليوم الأول" فوجئت بمشكلتين واجهتاني في المعهد من أول يوم،
المشكلة الأولى: أن ثلاثة طلاب من الصف الثاني في المعهد جاءوا، وفي يد كل منهم طلب بسحب أوراقه من المعهد، أذكر منهم الطالب: عتيق ناصر البدر «سفير بوزارة الخارجية الآن»، والطالب: موسى زينل موسى «مدير إدارة الثقافة والفنون الآن»، وثالث نسيت اسمه.
وبعد سماعي لهم قلت لهم: أنا معكم في هذا كله، وأعدكم أن هذا كله سيتغير، واصبروا عليَّ عدة أسابيع وسترون ما أقوله صحيحًا.
وقد اقتنع هؤلاء الطلاب الثلاثة، وكانوا سببًا في إقناع عدد آخر من زملائهم كانوا ينوون سحب أوراقهم.
والمشكلة الثانية: أشد وأنكى من الأولى؛ فالأولى: كانت انسحاب القديم، والثانية: أن لا جديد. ذلك أني لم أجد طالبًا واحدًا تقدم للالتحاق بالصف الأول بالمعهد. كل ما هنالك أن طالبًا لم يدخل الامتحان في العام الماضي فأعاد السنة، فهذا هو الاسم الوحيد الموجود على قائمة الصف الأول، ومر يوم واثنان وثلاثة، وبقية الأسبوع، فلم يتقدم إلينا أحد، ومعنى هذا: أن المعهد يصفي نفسه من أول يوم. إذًا لا معنى لمعهد لا يأتيه طلاب جدد، والطلاب القدامى كأنما فرضوا عليه، أو فرض عليهم فرضًا.
وبدأت أتهيأ لمواجهة هذه المشكلة العاجلة. فكتبت نشرة توزع على نطاق واسع في المساجد، تبين أهمية الدراسة الدينية والتفقه في الدين، وأنه واجب على كل مجتمع أن يهيئ من أبنائه فئة تتفقه في الدين، حتى إذا سئلوا أفتوا بعلم، وإذا قضوا قضوا بحق، وإذا دعوا إلى الله دعوا على بصيرة.
وفي يوم الجمعة، تحدثت بعد خطبة الشيخ ابن تركي في الجامع الكبير المعروف باسم «جامع الشيوخ» حديثًا عن طلب العلم، وأهمية علم الدين ... إلخ. فبدأ يجيئنا طالب بعد آخر، حتى اكتمل الصف الأول ثمانية طلاب، وقلنا: فيهم بركة.
وفي هذه الفترة بدأت أعد العدة لتصحيح النظرة إلى المعهد، وتطويره، تطويرًا يساعد أبناءه على أداء رسالتهم الدينية والدنيوية، ويبدأ تصحيح النظرة بإلغاء اعتبار المعهد مرحلة ثانوية مدتها خمس سنوات متصلة، إذ ليس قبلها مرحلة ابتدائية كمعاهد الأزهر. ثم قسيم المعهد إلى مرحلتين إعدادية وثانوية، كل مرحلة منهما ثلاث سنوات.
النشاط الدعوي في قطر
كانت الفكرة التي بيتها في نفسي قبل قدومي إلى قطر: أني ذاهب إلى بلد جديد، لا يعرفني أهله، وعليَّ أن أنتهز هذه الفرصة، لأتفرغ للقراءة والكتابة، وأعوض ما فاتني من زمن لم أستخدم فيه القلم كما ينبغي.
والواقع أني كنت واهمًا، فقد سبقتني سمعتي قبل أن أحضر، وسرعان ما اكتشفني الناس بدون جهد، فمنذ أول درس ألقيته في جامع الشيوخ بعد خطبة الشيخ ابن تركي، ومنذ أول خطاب ألقيته في المدرسة الثانوية بمناسبة انفصال سورية عن مصر، وكان هذا الخطاب ذا طابع سياسي، كما كان درس جامع الشيوخ ذا طابع ديني، عرف أهل قطر شيئًا عن هذا القادم الجديد، وبعد فترة قليلة، دعاني الشيخ ابن تركي إلى إحياء ذكرى الإسراء والمعراج في المدرسة الثانوية، وكلما جاءت مناسبة دينية أو وطنية أو اجتماعية، دعيت إلى المشاركة فيها.
رمضان الأول في قطر
فلما جاء أول رمضان عليَّ في قطر، بعثني ابن تركي إلى مسجد الشيخ خليفة بن حمد ولي العهد نائب الحاكم المقام أمام قصره، الذي فيه مسكنه ومكتبه؛ فكنت أذهب لأصلي العصر بالشيخ، ثم ألقي درسًا في تفسير آية، أو شرح حديث، أو الحديث عن موضوع معين بمناسبته، مثل الحديث عن غزوة بدر، أو فتح مكة، أو ليلة القدر، وهي مناسبات رمضانية معروفة، وكذلك الحديث عن فضل شهر رمضان أو أحكام الصيام في أول الشهر، وأحكام زكاة الفطر، وصلاة العيد في أواخر الشهر.
وكان الترتيب الذي وضعه ابن تركي أن أذهب إلى هذا المسجد نصف الشهر، ثم يبدلني، ويأتي بشيخ آخر بقية الشهر، من باب التنويع، وفعلًا بعد أسبوعين أرسل واحدًا آخر، وألقى درسًا، وفي نفس اليوم اتصل الشيخ خليفة بالشيخ ابن تركي، وقال له: لماذا غيرت القرضاوي؟ قال له: أردت أن أنوّع. قال: لا، أنا لا أريد تنويعًا، ولا أريد عالمًا غير القرضاوي.
وعدت ثانية إلى المسجد الشيخ خليفة، حتى تغير المسجد بمسجد آخر في الريان بعد أن نقل الشيخ قصره إلى الريان، وبعد أن أصبح هو حاكم قطر. ثم تغير مسجد الريان الكبير إلى مسجد داخل القصر، لا يأتيه إلا الخاصة، بناءً على توجيهات رجال الأمن، ولكن بقي حرص الشيخ على حضور الدرس بصفة دائمة، وإنصاته إليه، وكان في بعض الدروس يقول: أنت سلختنا النهاردة يا شيخ يوسف.
وظل هكذا حتى تولي ابنه الشيخ حمد الحكم، أي حوالي ستة وثلاثين رمضانًا، تخلفت فيها رمضانًا واحدًا عن هذه الدروس، وذلك في السنة التي أصبت فيها بانزلاق غضروفي، واضطررت للسفر لإجراء عملية في مدينة «بون» بألمانيا، أي أنني درست للشيخ (35) خمسة وثلاثين شهرًا رمضانيًّا.
بزوغ دور المعهد
أصبح المعهد الديني في قطر ساحةً لأنشطة متنوعة، يشغل بها طلابه، ويحرك حوافزهم، وينمي قدراتهم ومواهبهم، كما فتح أبوابه في المساء لنشاط ثقافي يسهم به في التوعية والتنوير للجمهور القطري.
على المستوى الطلابي، كنا نقيم بين الحين والحين مسابقات أدبية للطلبة، بعضها لأحسن خطيب، وبعضها لأحسن من يكتب مقالًا.
وكانت جوائزنا للمتفوقين في هذه الأنشطة بسيطة جدًّا، ولكنها كانت تسر الطلاب، وتحفز هممهم، وجلها كانت «كتبًا» نحاول الحصول عليها من بعض الجهات، إلى كتابة اسم الفائز في «لوحة الشرف» بالمعهد، وإعلان اسمه في طابور الصباح.
أما النشاط الثقافي العام، فقد أخذ عدة صور، أذكر منها: أنا كنا نحتفي بالمناسبات الإسلامية مثل الهجرة النبوية، وذكرى الإسراء والمعراج ونحوها، وندعو من يتحدث فيها من الخطباء المرموقين مثل فضيلة شيخنا الشيخ عبد المعز عبد الستار، والدكتور عز الدين إبراهيم، وكثيرًا ما ندعو بعض علماء قطر
القرضاوي والأسرة
ومن فضل الله عليَّ: أن زوجتي لم تنكر الحياة في قطر، بل انسجمت معها، وتعرفت على أخواتها من النساء المصريات، وخصوصًا من كان قبلنا منهن ممن عرفن الدوحة وأسواقها وما يتطلبه النساء منها، وأهمها: «السوق الضيقة» للائي تعرفن على تجاره وعالمه، وخصوصًا عالَم الأقمشة والثياب، التي تشتري منها المرأة لنفسها ولبناتها، وللهدايا المطلوبة منها آخر العام للأرقاب والأصدقاء والجيران.
كنا في كثير من أيام الجمع نخرج مع أسرنا، في طابور من السيارات إلى الأماكن الخلوية والرياضية والمتنزهات، في أم صلال، أو الخور، أو الشمال، أو الوجبة، أو دخان، أو أم سعيد، أو غيرها، ونقضي يومًا حافلًا بالنشاط الرياضي والثقافي، ونصلي الجمعة في أقرب المساجد، ونعود آخر النهار أكثر حيوية، وأقدر على مواصلة مشوار الحياة.
وكانت امرأتي عندما قدمنا الدوحة «حاملًا»، وفي (15) ديسمبر (1961م) رزقنا الله بابنتنا الثالثة: عُلا؛ فزادت البيت بهجة وإشراقًا، فقد زاد في منزلنا قنديل أو مصباح جديد.
الحج والعودة إلى الوطن
كان من أهم أعمال سنتي الأولى في قطر: رحلتي لأداء مناسك الحج: حج الفريضة، فقد استطعت «السبيل» إلى الحج، وقد نويت أن أحج وحدي دون اصطحاب العائلة، فقد كانت زوجتي ترضع ابنتي الثالثة «عُلا»، وكان عندها طفلتان: إلهام وسهام، فلم يكن معقولًا أن تحمل على يديها واحدة، تسحب اثنتين، وتحتمل مشاق الرحلة، فأجلت حجها إلى حين، وكنا في أواخر السنة الدراسية، فرأيت أن سفرها إلى مصر مدة غيبتي في الحج أوفق وأولى، بدل أن تبقى وحدها.
وبعد أن أدينا الفريضة، رجعنا للدوحة، وشاركنا في امتحانات آخر العام، وكان في المعهد أول امتحان للشهادة الإعدادية. وقد نجح المتقدمون جميعًا، وانتقلوا إلى الصف الأول الثانوي.
وبعد الامتحانات، طفق المدرسون يتهيأون للرحيل إلى بلدانهم، وأنا واحدا منهم، وبدأت أتهيأ للسفر، وخصوصًا أن زوجتي وأولادي سبقوني إلى مصر، فما أشوقني إليهم، وما أشوقني إلى مصر.
وفي الخامس عشر من يونيو، امتطيت الطائرة «الكوميت» عائدًا إلى القاهرة. والحمد لله رب العالمين، وكانت الإجازة مدة ثلاثة أشهر كاملة.