وبعد أن تحدثنا عن نشأة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، وذكرنا البيئة التي ترعرع بها، وتأثير قريته، ووفاة والده، والتحاقه بالكتاب، وحفظ القرآن الكريم كاملا، ثم التحاقه بالمعهد الأزهري، وعلاقته بالشيخ محمد متولي الشعراوي، نسرد لكم في حلقة جديدة من مذكرات العلامة في كتاب "ابن القربة والكتاب ..سيرة ومسيرة"، علاقة شيخنا بالإخوان المسلمين وكيف تأثر بالإمام حسن البنا وتأثير الإخوان عليه في حمل دعوة الإسلام في العالم أجمع.
حب الإمام البنا
وحول لقاء الشيخ يوسف القرضاوي بالإمام حسن البنا يقول العلامة في مذكراته: "حظيت بالاستماع إلى الشيخ الإمام حسن البنا، منذ كنت طالبا في السنة الأولى الابتدائية بالمعهد الأزهري بطنطا، وأعجبت بشخصية الرجل، وملك حبه قلبي، وإذا كانوا في عالم العشاق يتحدثون عن الحب من أول نظرة، ففي عالم الدعوة يمكن أن نتحدث عن الحب من أول كلمة".
وتابع: لقد تعلق فؤادي بحسن البنا، تعلق المريد بالشيخ، والتلميذ بالأستاذ، والجندي بالقائد، وإن كنت لم أصبح جنديا في جماعته إلا بعد ثلاث سنوات.
القضية الوطنية
لا صوت يعلو فوق حب الوطن، تلك هي القضية التي جمعت العلامة الدكتور القرضاوي بجماعة الإخوان المسلمين، حيث يشير العلامة في مذكراته "أنه والأخوان جمعتهم قضية الوطن، ما جعلها شغلنا الشاغل، وهمنا الأول، نبذل لها الجهود، ونحشد لها الحشود، ونجند لها قوى الأمة".
وتابع: "أذكر أن مما ساهمت به في تلك الفترة ـ بجوار الخطب الثورية، وقيادة مظاهرات الطلاب ـ عددا من القصائد ألقيتها في دار الإخوان، أو في المعهد على الطلبة، وكان من (المشاريع المتخاذلة) التي جاهد الإخوان لإسقاطها (مشروع صدقي بيفن) الذي روج له رئيس الوزراء المشهور، والمعزول عن عواطف الشعب المصري من قديم، لما اشتهر عنه من استبداد وجبروت: إسماعيل صدقي باشا. وبيفن هو وزير خارجية بريطانيا في ذلك الوقت".
وقد أمهل الإخوان صدقي في أول الأمر، حتى ينظروا حصيلة ما عنده، ثم تمخض الجبل فولد فأرا، وربما (صرصورا) ! فكان هذا المشروع الذي لا يحرر مصر تماما من ربقة الإنجليز، وقاومه الإخوان بوضوح وشراسة.
وقد خرجنا في مظاهرات، برغم منع المظاهرات في عهده، ولكن رتب الإخوان مظاهرات خرجت في الليل بعد صلاة العشاء، وانطلقت من أكثر من مكان لتلتقي في مسيرة حاشدة، اصطدمت رجال الشرطة، وقبض على عدد من المتظاهرين، وأودعوا أقسام البوليس، وكاد يلقى القبض علي، ولكن الله سلم.
وما زالت هذه المعارضة الشعبية من الإخوان ومن الأحزاب الأخرى حتى سقط مشروع "صدقي-بيفن" صريعا لليدين والفم، وسقطت حكومة صدقي بعده.
فوائد جمة بانضمامي إلى دعوة الإخوان
وعدد الشيخ الفوائد الجمة التي جناها بالمشاركة في دعوة الإخوان قائلا: "انضمامي إلى دعوة الإخوان المسلمين خيرا لي في ديني ودنياي، وأقول بكل صراحة وجلاء: إنني حققت مكاسب دينية كبيرة، واجتنيت فوائد جمة بانضمامي إلى دعوة الإخوان:
1- أنها وسعت أفقي بفهم الإسلام فهما شاملا، كما شرعه الله تعالى، وكما أنزله في كتابه، وكما دعا إليه رسوله، وكما فهمه أصحابه، فهو دين ودنيا، ودعوة ودولة، وعقيدة وشريعة، وعبادة وقيادة، ومصحف وسيف.
2- أسقطت عني فريضة (العمل الجماعي لنصرة الإسلام) فمن المؤكد اليوم: أن نصرة الإسلام بالقول والعمل والدعوة والبذل، حتى يستعيد القيادة التي عزل عنها، ويعود حكم شريعته ليشمل كل جوانب الحياة، والوقوف في وجه التيارات المعادية للإسلام ودعوته وشريعته وحضارته وأمته.
3- انتقلت من مجرد (واعظ ديني) في القرية أو القرى المجاورة إلى (داعية إسلامي) فلم يعد همي محصورا في الحفاظ على التدين الفردي في نفس المسلم، وإن كان هذا ضروريا ولا بد منه، ولكن لا بد من (يقظة إسلامية) عامة، تصحو بها العقول، وتحيا بها القلوب.
4- وبانضمامي إلى دعوة الإخوان، انتقلت من الهموم الصغيرة إلى الهموم الكبيرة، ومن المطامح التي تتعلق بشخصي إلى الآمال المتعلقة بأمتي؛ لم يعد كل طموحي أن أتخرج، ثم أتوظف، ثم أتزوج، وأكون لنفسي مستقبلا خاصا، بل أصبح طموحي أعمق وأكبر من ذلك، وغدت آمالي أعرض وأوسع من مجرد المكاسب الشخصية، والمستقبل الفردي.
5- ومما استفدته من مدرسة الدعوة: الخروج من العزلة التي فرضت على أبناء الأزهر، نتيجة التعليم المزدوج، فكان أبناء مصر طائفتين: (دينية) لمن يتخرج في الأزهر، و(مدنية) لمن يتخرج في التعليم العام، وبين الفريقين حواجز ثقافية ونفسية تفصل بينهما، ولا يكاد يلتقي أحدهما الآخر. فكان من فضل دعوة الإخوان أن أزالت الحواجز، وأذابت الفوارق المتوارثة بين الفئتين، وكانت شعبة الإخوان هي (الخلاط) الذي يمزج الجميع، ويجمع بينهم في رحاب الدعوة.
الاعتقال الأول
ووصف الدكتور يوسف القرضاوي معاناة من الملاحقات الأمنية عقب حل جماعة الإخوان المسلمين بعد واقعة اغتيال وزير الداخلية محمود النقراشي، قائلا: بعد حل جماعة الإخوان المسلمين شهدت مصر حادثتين هما اغتيال رئيس الوزراء ووزير الداخلية والحاكم العسكري العام "محمود فهمي باشا النقراشي"، في قلب عرينه في وزارة الداخلية، محاولة نسف محكمة الاستئناف بالقاهرة، ليشن بعدها حملة اعتقالات ضد الإخوان وكنت أنا من بين المطلوبين".
وتابع: "فكرت في الأمر أنا وأخي ورفيقي "محمد الدمرداش مراد"، وتشاورنا في الأمر، وقررنا أن نغيب عن المعهد، ونختفي معا في قرية الأخ الدمرداش (السملاوية) فهي قرية صغيرة بعيدة عن أعين الرقباء، ونستطيع أن ندخلها خلسة بحيث لا يرانا أحد، ولا نخبر بوجودنا أحدا إلا بعض الثقات المأمونين من الإخوة، وهناك نبقى فترة من الزمن، حتى تهدأ الأمور، أو يهيئ الله حلا للمشكلة".
وحول ملابسات اعتقاله الأول قال الدكتور يوسف: بعد أيام علم الأمن بمكاننا ثم استطعنا الهروب لكنهم تحفظوا على والدة الدمرداش فلم يعد أمامنا بُدٌّ من تسليم أنفسنا، ولا يجوز أن تبقى والده ليلة واحدة في الحجز، فسلمنا أنفسنا، وأفرجوا عن الحاجة -رحمها الله-.
ودخلنا حجز قسم أول طنطا، مع من فيه من المجرمين والمتهمين أياما قليلة، ثم نُقلنا إلى سجن خاص بنا داخل القسم نفسه، ووجدنا فيه بعض الإخوان قد سبقونا إليه، بعضهم من مدينة طنطا، وبعضهم من كفر الزيات، ومن بسيون ومن شربين.
خروج إلى حزن أعمق من الاعتقال
وفي يوم 13 فبراير سنة 1949 خرجنا من سجن القسم الأول بطنطا لنرى الشمس ساطعة بعد أن غابت عنا هذه الفترة الطويلة ولكن هذه الشمس سرعان ما أظلمت في وجوهنا حين طالعتنا الصحف التي حُجبت عنا هذه المدة، ووجدنا عناوينها الرئيسة تحمل هذا النبأ المفجع: "اغتيال حسن البنا" كما في جريدة الأهرام، أو "مصرع الشيخ البنا"، كما في جريدة المصري.
ثم وُضِعنا في سيارات الشرطة الكبيرة التي نقلتنا إلى القاهرة، ووضعنا في معتقل الهايكستب في ضواحي القاهرة، الذي جُمعت فيه أعداد كبيرة من الإخوان، ثم تم ترحيلنا إلى الطور.
ويقول العلامة بينما كنا نستمتع مع إخواننا بحياة إسلامية فريدة في الطور، مشاركين في النشاط الإسلامي المتعدد الألوان، إذا بنا نفاجأ بالنداء علينا - نحن طلاب الثانوي- لنقلنا إلى القاهرة.
وهكذا جمعونا -طلبة الثانوي-: أنا، وأحمد العسال، ومحمد الدمرداش ومصباح عبده، الذين كنا في سجن قسم طنطا، ومن انضم إلينا من زملائنا الطلاب: السيد النفاض من محلة أبو علي، وكمال السيد جروين من كفر طبلوها من معهد شبين الكوم بالمنوفية، ومحمد التاجي من معهد أسيوط الديني بالصعيد... وآخرون لا أذكرهم.
وتابع: وصلنا إلى معتقل "هايكستب" بالقرب من القاهرة، و"هايكستب"، ووُضعنا في أحد عنابره، ثم عدنا مرة ثانية للطور، ولم تمضِ أيام حتى جاء أول كشف يتضمن أسماء المفرج عنهم، الذين يمثلون الفوج الأول، وكان اسمي ضمن هؤلاء، ومعي عدد من الزملاء: محمد الدمرداش، مصباح عبده، السيد النفاض، وعدد من الإخوان من مختلف المديريات.