25/03/2011

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..

فإن الحرية من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان، بها تتحقق كرامته، وتظهر مكانته، وتُحدَّد رسالته في هذا الكون.. (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: من الآية 30)؛ فالله تعالى خلق الإنسان بيده- سبحانه- وأمر ملائكته أن تسجد له، وحدَّد له دوره في الكون.. (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: من الآية 61)، وسخَّر له كل مقدَّرات الكون.. (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) (الجاثـية: من الآية 13)، ومنحه حرية السفر والتنقل والتفكر.. (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) (النمل: من الآية 69)، وحرية العمل والهجرة والكسب.. (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15)، بل منحه حرية التدين والاعتقاد.. (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: من الآية 256)، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: من الآية 29)، وحرَّره من عبودية شهواته أو وساوس الشيطان، وحذَّره من ذلك (إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) (طه: من الآية 117).

إن كلمة التوحيد التي يدخل بها الإنسان في الإسلام هي في حقيقتها رسالة التحرير لكل البشر من كل عبودية، إلا العبودية للواحد القهار (لا إله إلا الله) تبدأ بالنفي:

 * نفي الألوهية عن كل مُدَّعٍ لها يبغي التسلُّط على الناس بالقهر والجبروت، ولا يصح التوحيد إلا بتحطيم هذه الألوهية المُدَّعاة، كالذي قال: (قَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ﴿٢٤﴾) (النازعات).

 * واحتكار الرأي.. (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴿٢٩﴾) (غافر).

 * والاحتكام للعادات والتقاليد، إن كانت تقيِّد حركة الإنسان أو تنتقص من حقوقه أو تهين كرامته.. (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴿٢٢﴾) (الزخرف).

 وتنتهي بالإثبات:

* إثبات الألوهية لله الواحد القهار.. الخالق الرازق.. العليم الخبير.. الرحيم الودود.. الذي له الحق في التشريع.. (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴿١٤﴾) (الملك).

 وأنبياء الله تعالى هم أول المصلحين للنظم المعوجَّة والواقفين في وجه الانحراف العقدي والقوانين الجائرة والاستبداد السياسي والجمود الفكري والتحجُّر العقلي، ولهذا قاومهم كبراء القوم من الملأ في كل زمان ومكان، كالنمرود؛ الذي قال لإبراهيم عليه السلام: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) (البقرة: من الآية 258)، و"فرعون" الذي قال (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) (الزخرف: من الآية 51).

 وكذلك قاومهم الأعوان الظلمة، كهامان وجنوده والملأ من قومه: (أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (الأعراف: من الآية 172).

 كذلك قاومهم الأثرياء المستكبرون كـ"قارون" الذي تباهى بماله وكنوزه وقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص: من الآية 78).

وقاومهم الدهماء من الناس؛ الذين استكانوا لأوهام الماضي وفساد الحاضر.. (مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) (المؤمنون: من الآية ٢٤) (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف: 54).

 هكذا كانت دعوة الأنبياء جميعًا دعوةً لتحرير الإنسان من كل قيوده؛ لإعادة بناء الحياة الإنسانية على أسس من الحق والعدل والمساواة، ومن إعلاء قيمة الإنسان وحفظ كرامته، وردّ حقوقه المسلوبة منه.. (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّـهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: ٢٥٦).

 وكانت دعوة الأنبياء حياةً جديدةً للأرواح والأبدان.. للإنسان والمجتمع، للرجل والمرأة، للطفل والشاب والشيخ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: من الآية 24).

 *****

لكن هذه الحرية الكاملة تعني في الوقت ذاته مسئوليةً مكافئةً، فالإنسان الحر مسئولٌ عن تصرفاته وحركاته وسلوكه، والمجتمع الحر عليه واجبات يقوم بها ويسأل عنها.

 ولقد منَّ الله على أمتنا في (مصر الحبيبة) بالحرية بعد طول ذُلٍّ واستعباد وظلمٍ وقهرٍ وتكبرٍ واستعلاءٍ واستبدادٍ وإقصاءٍ، بعد ثورة الشباب المباركة؛ فأزاح الله عنا ظالمًا مستبدًّا ونظامًا فاسدًا، سرق أموال الشعب، وبدَّد ثرواته، وأهدر مقدَّراته، وكبَّل العقول والجسوم، وهادن الأعداء وحالفهم، وتجسَّس على كل أبناء الشعب واستعبدهم، وطارد الأحرار وسجنهم وعذَّبهم، وقتل الكثير منهم، ولقد دفع الأحرار ثمنًا باهظًا من دمائهم وحرياتهم وأموالهم ومصالحهم، وهذه ضريبة الحرية، نفهمها من ديننا وتعاليم ربنا.. (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّـهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ ﴿٢١٤﴾) (البقرة) (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴿١١٠﴾) (يوسف).

 لكن تبعات النصر جسيمة، وتكاليف الحرية غالية، والبناء أصعب من الهدم.

 ومن هنا وجب على كل الأحرار أن يشحذوا هممهم، ويستجمعوا قواهم، ويوحِّدوا صفوفهم لإصلاح كل ما فسد، وتقويم كل ما أعوجَّ، وهداية كل من ضلَّ، ومقاومة كل متربِّص وكائد ممن يكرهون لأمتنا الخير ويتربَّصون بها الدوائر.

 وأول وأصعب خطوات البناء:

1- الصفح عند المقدرة.. (وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) (النور: من الآية 22)، إلا من ظلم أو سفك الدماء، أو سرق ولا يزال يحتفظ بما نهب من حقوق البلاد والعباد.

2- كذلك الصبر على عداوة الجاهلين.. (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿٨٩﴾) (الزخرف)، (سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴿٥٥﴾) (القصص)، (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴿٨٥﴾) (الحجر)، فما بالك بإخواننا في الوطن أو الدين!.

 3- كذلك من أصعب المهام وأوجب الواجبات تعريف الناس بدعوتنا وجلال رسالتنا؛ أي تعاليم ديننا الصحيحة السمحة، وأهم من الشرح تقديم القدوة؛ لأن "حال رجل في ألف رجل خير من كلام ألف رجل لرجل"؛ لتصحيح ما روَّجه الإعلام الفاسد والنظام البائد عن دعاة الحرية والعدالة والهداية والإصلاح في سنوات طوال عجاف.. (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ) (يوسف: من الآية 108) (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود: من الآية 88).

 إن رسول الله صلى الله عليه وسلم- رغم أنه المعصوم والمرسل من ربه- كان يرجو من قومه المتسلِّطين إتاحة الفرصة لعرض الأفكار والمناهج في حرية وتسامح.. "يا ويح قريش، قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلُّوا بيني وبين الناس؟!!".. لقد أمره الله تعالى أن يجادل بالحسنى، وأن يقابل السيئة بالإحسان (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿٣٤﴾ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿٣٥﴾) (فصلت).

 وقد أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حرية التفكير وحرية النقد، وتقديم النصيحة حتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 إننا نمد أيدينا إلى كل المخلصين في هذا البلد الأمين، بل في كل بقاع الدنيا؛ كي نتعاون على الخير، ونتواصى بالبر، ونعمل لخير البشرية جمعاء.. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: ١٣).

 وكل القيم والأخلاقيات أجمعت عليها الرسالات السماوية.. "إنما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق".

 ونسأل الله تعالى أن يمُنَّ على كل شعوب الأرض بالحرية والعدالة والمساواة، وأنْ يحطِّم كلَّ القيود والطواغيت التي تحُول دون حياة الإنسان حياةً كريمةً عزيزةً.. (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: من الآية 70)؛ فلنحرِصْ جميعًا على كرامة الإنسان الذي كرَّمه الله.

 والله أكبر ولله الحمد.