24/12/2009

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله النبي الصادق الوعد الأمين، وعلى لآله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد ...،

صار لزاماً على أمة الإسلام أن تضع يدها على مواطن الداء فيها حتى تبدأ أولى خطواتها على طريق العلاج لتنهض من كبوتها، ولعل إيمانها بحتمية النهوض يكون هو الدافع لتتحمل شجاعة مواجهة العلل التي باتت تنخر في جسدها لتحول الجسد الواحد إلى أعضاء متفرقة بلا ملامح وتُعمل عللها في العضو الواحد فتفسُد أنسجته وتتنافر خلاياه ... أليس هذا بربكم هو حال أمتنا ؟ دول تتصارع .. وأنظمة تتناحر .. وحكومات تأكل الحقوق وتجثم على الصدور والخيرات .. وشعوب تمزقها الصراعات والمؤامرات قبل الغارات والتفجيرات .

ومن يتمعن في صورة الواقع يجد روحاً غائبة عن أمتتنا تارة أو مغيبة  تارة أخرى . إنها روح الإرادة الحرة التي تدفع الشعوب للحياة ... وليس المقصود اليوم بالحياة أسبابها من مأكل ومشرب وتناسل ولكنّا نقصد هنا الحياة الإنسانية التي ترى الإنسان محور الكون (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ *  وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(ابراهيم:32-34) فله سخر الله كل شيء ليحيا ويدير المفردات من حوله بقرار واختيار حفظه له الله حتى في علاقته به جل وعلى حين قال (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(الكافرون:6) .

إن الإرادة التي نريد هي تلك النابعة من إيمان حقيقي بقيمة الإنسان الذي كرمه ربه وخالقه حين قال (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الاسراء:70) } لتفجر في الإنسان طاقات الفعل المتنوع مابين تواصل إنساني { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } واقتحام لكل دروب الأرض  { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور } وتحصيل لكل علم { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَاب } ومقاومة لكل ظلم واستبداد وعدوان وتجبر { وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } .

سلب الإرادة

ولاشك في أن المتربصين بأمتنا سعوا عبر مخططات عديدة لسلب شعبها إرادته عبر شتى الطرق والوسائل الممكنة حتى تستحيل الشعوب مطية لكل غاصب يوجه طاقتها في فضاء غير متناهي.

ومن ثم فليس بمستغرب أن يتم تخدير شعوب كانت توحدها راية الإسلام وتحركها صرخة واإسلاماه لتنتفض ملبية صرخة مواطنة في دولة الإسلام الواسعة دون أن تفكر هذه الشعوب في حسب أو نسب أو عرق هذه السيدة !

وكذا ليس مستغرباً عندما يتم أسر إرادة الشعوب المسلمة أن تجدها غير مبالية بينما يد بني صهيون تعبث بقواعد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين والوقف الذي أوقفه عمر بن الخطاب لكل المسلمين ليجعل من كل فرد في هذه الأمة أميناً عليه إلى يوم الدين .

وعندما تتغير بوصلة الإرادة تختلف الأولويات ليصبح الفرد قبل المجموع وساعتها يقل الولاء للوطن ويتراجع الإحساس بالمسؤلية وتنمو آفات التسلق والنفاق والابتزاز وتموت بذور التواصل بين الناس لينمو على رفاتها كل الطفيليات المجتمعية وتتسلط على الأمة أسباب التخلف بإرادة مزيفة وموجهة ويعم الفساد بكل ألوانه وأشكاله بدءً من فساد الحكم وصولاً إلى فساد العلاقات الإنسانية  { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .

إن شعوباً مسلوبة الإرادة لا تقدر إلا على الفعل الموجه الذي يرى بعين سالب إرادتها لا بعينها ومن ثم تكون حركته مرهونة بمنطق غير واع للحقيقة من الضلال فتهتف خلف الطاغوت { أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } ولكنها رغم حركتها المسلوبة الإرادة فإن التاريخ لا يعفيها من المسؤلية عن عدم الانتفاضة لتحرير إرادتها ويكون مآلها هو ذات مآل الطغاة { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } ولا يعفيها الله من ذنب الاستضعاف الناتج عن الاستخفاف بعقولها وإرادتها لأن محصلة ذلك هو تراجع الإنسانية كلها { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ } .

الاستعمار الجديد

إن استعماراً جديداً صار جاثماً على صدر أمتنا يدرك تماماً أن تطويقه لها هو الضمانة الوحيدة لاستمراره وبقاءه ونموه بمقدراتها، وهذا الاستعمار الجديد بات أشد خطراً من كل ألوان الاستعمار على مدار التاريخ وشواهده عديدة لأنه يستهدف إرادتها بأساليب عدة :

فبإرادتها يشهر الأخ السلاح في وجه أخيه بدعوى مواجهة الإرهاب ليقتل بلا رحمة ولا تفرقة بين مذنب وبريء أو طفل وعجوز .

وبإرادتها تضغط اليد على زر القنابل المتفجرة لتسجل انتصاراً للمعارض على الحكومي في الوطن الواحد الذي قهر المحتل ولم يقهر روح الفرقة .

وبإرادتها يتم توقيع صفقات النفط والغاز والمقاولات والسياحة مع العدو بينما الأخ يتسول قوته ويبحث في تلال القمامة على ما يستر به عورته !

وبإرادتها يتم تجييش الشعوب خلف مباراة كرة قدم أو مسابقات غنائية لننتصر على ذواتنا في معارك وهمية تضيف إلى هزائم واقعنا هزيمة قاسية مرة .

وبإرادتها تتحول الخلافات المذهبية إلى حروب طاحنة تجر الأمة إلى ميداين فرعية صارفة إياها عن ميدان فيه العدو الحقيقي يرتع ويهتك ويسرق ويدمي القلوب والأوطان والمقدسات.

وبإرادتها تشاهد الأمة كلها العدو يحاصر غزة المسلوبة مع فلسطين من بدن الأمة ومع ذلك لا تتحرك الشوارع ولا تنتفض الإرادة والأدهى من ذلك أن تشارك العدو في الحصار وتمده بالعدة ليشيد أسواره ويحكم حصاره .

لقد استضعفت أمتنا وتفرقت وتناحرت وتقاتلت وحُوصرت وفُجرت وأعتقلت وحوكمت وفُرضت عليها العقوبات ودفعت لمن لا يستحق التعويضات واستحقت أن تحمل اسم (عالم ثالث) في عالم ليس فيه ثان كل هذا يوم ارتضت أن تتحول إرادتها من الاستقلال إلى التبعية .

التغيير

إن ثورة مطلوب إحداثها في نفوسنا لتستطيع أن تحصل لإرادتها على صك الاستقلال وساعتها تضمن للإنسان فيها إنسانيته والإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله عندما رسم صورة للشعب الناهض جعل له صفات على رأسها ( إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ) .

وروح التغيير ليست وحياً ينزل من السماء ولا مارداً يستحضره السحرة والدجالون وإنما هي بذرة تبذرها يد الشعب المتطلع إلى الحرية في أرض من الوعي بالقيمة الإنسانية السامية ولا تنمو هذه البذرة إلا عندما يحتضنها رحم الإرادة الذي بمخاضه يولد التغيير { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا  ما بأنفسهم } .

و أنتم أيها الإخوان

يا روحاً يسري في بدن الأمة ليحيها ويحرر إرادتها ...

ويا أملاً يصارع نجمه سحب الاستبداد والقهر والظلم والعدوان

ويا جنداً على ثغور الحياة ترابطون سعياً للغد القادم

إن الآمال المعقودة عليكم كثيرة، وإن الواجبات تصارع الأوقات بعدما صار إيقاع الحياة سريع الخطى ثقيل الوطأة، فكونوا على قدر المسؤلية وأعدوا أنفسكم لقدر الأمانة التي لا يحملها إلا من وصفهم رب البرية بقوله { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } . وأعلموا أن الإخوان لا يستأثرون بالحق ولا يتعالون به وإنما هم سائرون في دربه وجادون في البحث عنه يحملونه إلى الناس بشارة ويتحملون إعراضهم عنه آملين في أن تتفتح لدعوتهم العقول ومن قبلها القلوب .

فلا يحملكم اختلاف أولويات الناس مع أولوياتكم على اليأس أو القلق أو القنوط فإنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ولكن دربوا إرادتكم على الصبر فلا تغيير إلا به، وما من ثابت إلا الحق جل في علاه، وتزودوا بمداد الحق أوراداً من كتابه وذكره والجد في طلب رضاه لستحيل إرادتكم ربانية التوجه وساعتها يقسم الواحد منكم على قلوب الناس فتتحرك لتتغير وتغير مستقلة عن كل تبعية ومتحررة من كل قيد { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ  وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

والله أكبر ولله الحمد
 
القاهرة في : 6 محرم 1431هـ الموافق 24 ديسمبر 2009م