الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أحمعين
أحبتنا حجاجَ بيت الله، الذين أنابوا إلى ربِّهم، وفارقوا ديارهم، وتخلَّصوا من معوقات الدنيا، بعد أن تلقَّوا الدعوةَ من الله؛ فتحركوا شوقًا ومحبةً واستجابةً لأمر ربهم، وانبعثوا مُلَبِّين دعوةَ خالقهم وسيدهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد؛

ففي أعظم وأكرم مؤتمر جامع عرفته الدنيا وقف نبيُّنا الحبيبُ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمام أكثر من مائة ألف مسلم وحَّدهم الإسلامُ بعد أن كانت قد فرقتهم النعرات العصبية؛ ليُحَذِّر الأمةَ من المحاولات الشيطانية الماكرة للعودة بهم إلى مربع العصبية وحمية الجاهلية، فقال "أَلاَ لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلاَ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَلَكِنَّهُ فِى التَّحْرِيشِ بَيْنَكُمْ" (مسند أحمد) أي إنه جعل كيده لهذه الأمة الواحدة في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها.

وطلب صلى الله عليه وسلم صفوةَ الأمة الذين حضروا هذا المؤتمر الكريم أن يبلغوا الأمةَ كلَّها هذا البلاغ فقال: "لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ؛ فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَسْعَدُ مِنْ سَامِعٍ".

ولا تزل الأمةُ تسعد بهذا التوجيه النبوي العظيم، فتجتمع في مؤتمركم العظيم سنة بعد سنة، معلنةً تجريد العبودية وإخلاصَها لله، وتخلِّيها عن كل أسباب التفرق، لا ترفع في موسم الطهر إلا رايةَ الوحدة الإسلامية، ولا تهتف إلا بنداء الأخوة الجامعة، في حالةٍ من أرقى حالات التواصل الروحي، حيث تَعْذُبُ المناجاة، وتحلو الطاعة، ويسري نورُ الإيمان بين الجوانح، ويشعر المسلم أنه فوق عالَم البشر، يُحلّق مع الملائكة الكرام؛ فالذنبُ مغفورٌ، والسعيُ مشكورٌ، وكلُّ خطوة يخطوها الحاجُّ تكتب له ملائكةُ الرحمة بها حسنةً، وتضع عنه بها سيئة، في إدراك واعٍ رائع لكون الحجّ تهذيباً للنفوس، وتطهيراً للقلوب، وغسلاً لأدران الشر، فضلا عن أنه تلاقٍ اجتماعيٌّ، وتعارفٌ إسلاميٌّ، واجتماع للنفوس المؤمنة على مودةٍ ورحمةٍ ورُوحانيةٍ في ظل البيت المقدس، وفي الأماكن المطهرة، في ضيافة رحمانية كريمة، الحجيجُ فيها لا ينشغلون بغير ما جاءوا له من عبادة كريمة، فهديرُهم تكبيرٌ، وهتافُهم تسبيحٌ، ونداؤُهم تلبيةٌ، ودعاؤُهم تهليلٌ، ومشيُهم عبادةٌ، وزحفُهم صلاةٌ، وسفرُهم هجرةٌ إلى ربهم، وغايتُهم مغفرةٌ من الله ورضوانٌ، تراهم في حشدهم صورةً متكاملةً متناسقةً في إطار نوراني على اختلاف الأجناس، وتباين اللغات وتغاير الأوطان.
تلكم هي صورة الأمة المسلمة الواحدة التي يمثلها الحجيج في هذا المؤتمر الكريم أصدق تمثيل.

فهنيئا لكم أيها السعداء بضيافة الرحمن، وبشراكم أيها المستجيبون لنداء الخليل، أبى الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام، وإذْ أدعوكم إلى نبذ كل أسباب الفرقة، وتجنب كل أسباب الخلاف، ورفض كل محاولات التحريش أو التحريض، وطرح كل رايةٍ وشعارٍ غيرِ راية التوحيد وشعار التلبية، والانهماك الصادق في الذكر والطاعة، وشغل كل الوقت بالتلبية والدعاء؛ فإنني أذكركم بأن تجعلوا ورداً من دعائكم لأمتكم، أن يحقن الله دماءَها، ويدفع عنها الفتنَ، ويهديَها سبيل الرشاد، ويحفظَها من كيد الأعداء وجهالة الحمقى والسفهاء، ويحررَ مقدساتها من أيدي الغاصبين، ويحررَ ديارها من عدوان المحتلين، ويكتبَ لها الرفعة في العالمين، وأن يصلحَ بين الرعاة والرعية، وأن يؤلفَ بينهم في الخيرات، وأن يدفع شرَّ بعضهم عن بعض، وأن يجعلهم يداً واحدةً على أعداء أمتهم.

تقبل الله حجكم، وغفر لكم ولمن استغفرتم له، وحفظكم من كل بلاء، وأعادكم لأوطانكم مقبولين مغفورين سعداء.
والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
القاهرة فى : 5 من ذى الحجة 1430هـ
22 من نوفمــبر 2009م