28/08/2009

 

إن العالم الإسلامي يمرُّ بأيام عصيبة، ومرحلة فاصلة في تاريخه، في ظلِّ ما يُدبَّر له ويُحاك بليلٍ، منذ أن فكَّر الصهاينة في أن يكون لهم وطن على أرضنا، وساعدهم في ذلك الغرب، ومنذ أن زرعوا هذا السرطان في جسمنا والمِحَن تتوالى، فالحروب لم تهدأ ثائرتها: (56- 67- 73- اجتياح لبنان 82- غزو أفغانستان 79- احتلال العراق 2003م- حرب لبنان 2006م- محرقة غزة 2008/2009م)، وتخلل ذلك جرمهم الأعظم بإقدامهم على حرق المسجد الأقصى من قبل، ومحاولة هدمه وإقامة الهيكل على أنقاضه.

 

ثم كان الشر الأكبر ممثلاً في ضغوط الإدارة الأمريكية بضرورة الاعتراف بيهودية الدولة الصهيونية من العالم بصفةٍ عامة والدول العربية بصفة خاصة.. حتى يتفضَّلوا على الفلسطينيين بدويلة عبارة عن جزر منعزلة فاقدة السيادة والأهلية.

 

هؤلاء القوم ينشئون دولةً يهوديةً كشوكة في جسد الأمة العربية والإسلامية، وفي الوقت ذاته يعملون على محو كلمة الإسلام من دساتير الدول المسلمة، وما من دولةٍ مسلمةٍ تُفكِّر في أن تقيم الإسلام حيًّا بين ربوعها بمثله وقيمه وأخلاقه وشرائعه إلا وعملوا على وأْد الفكرة في مهدها.. وتتجه يمينًا وشمالاً فلا تجد نيران الحرب مشتعلةً إلا على أرض المسلمين.. فلسطين الحبيبة، والعراق الجريح وأفغانستان المبتلاة منذ عقود بالحروب من قطبَي العالم، والصومال المتناحر.. والسودان.. وباكستان.. وكشمير.. وغيرها.

 

هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر نرى في ديار المسلمين الظلم منتشرًا، والاستبداد مسيطرًا، والحريات مفقودةً، والحكومات تعيش في أبراجها، بينما الشعوب تتردَّى في فقرٍ مدقع، وجهل مطبق، ومرض مقعد، فالاقتصاد ينهار ومشروعات البلد الاقتصادية كادت أن تكون حكرًا على الأجانب، والبطالة تزداد، والتربية والتعليم بكل مؤسساتها لم تعد تربِّي ولا تعلِّم، والمؤسسات الصحية لم تعد تؤدي دورها.

 

أضِف إلى ذلك أنك حيثما ولَّيت وجهك هَالَكَ ما ترى، فالعدالة تُذبح، والجريمة تنتشر، والرذيلة تُعلن عن نفسها، والفضيلة تتوارى أمامها، والقيم الأصيلة التي عاش بها المسلمون أوشكت أن تضيع، واستبدلنا بها قيمًا وأخلاقًا لم نألفها، ولن تزيدنا إلا ضياعًا وهلاكًا.

 

- هذا كله يدعونا إلى أن نُفكِّر كيف نخلِّص أوطاننا مما حلَّ بها؟

 

- وكيف نستعيد مجدنا وتكون لنا الكلمة السائدة في بلادنا؟

 

- بل كيف نكون أمةً واحدةً تقوم برسالتها وتؤدي مهمتها في نشر العدل والرحمة والحرية والمساواة بين البشر؟!

 

قانون عام للتغيير

لقد وضع الله في كتابه الكريم قانونًا عامًّا للتغيير؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11)، وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الأنفال: من الآية  53).

 

فمنطلق التغيير يبدأ من النفس البشرية، فإن عرفت ربها وأصلحت نفسها واستقامت على شريعته؛ أعزَّها الله ومكَّن لها: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾  (النور).

 

وإن انتكست على أعقابها، وتنكَّرت لشرع ربها، وتفرَّقت شيعًا وأحزابًا؛ كان الفشل مآلها، وضعف قوتها، وبالتالي زوال عزها ومجدها: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)﴾ (الأنفال).

 

والتاريخ شاهدٌ على مصداقية هذا القانون، فقد كان العرب قبل الإسلام قبائل متفرقة، متقاتلة، متناحرة، يقتسم ديارهم الفرس والروم، فلما جاء الإسلام جمع المتفرق، وأصلح بين المتناحر، وجعلهم أمةً واحدة: الله ربها، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيها ورسولها، والقرآن الكريم كتابها، والقبلة وحَّدت وجهتهم، وجعلت منهم صفًّا واحدًا، في الصلاة ومواجهة الأعداء، يجمع العربي والفارسي والرومي والحبشي والأبيض والأسود والغني والفقير.

 

هذا الجسد الجديد للأمة الإسلامية استطاع في ربع قرن أن ينشر عدله ورحمته، ويخلِّص الناس من طغيان الروم واستبداد الفرس ويترك الناس أحرارًا ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: من الآية 29)، ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: من 256)، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) (يونس).

 

وظلت لهم السيادة والهيمنة قرونًا عديدةً، فلما وهت صلتُهم بالإسلام، وظهرت فيهم النعرات الطائفية؛ طمع فيهم كل ناهبٍ فاحتلوا أرضهم، ونهبوا خيراتهم، وسقط الأقصى في أيديهم سنة 492هـ، فلما شاء الله استرداده، بعث الله من جمَّع الأمةَ على الإسلام، ووحَّد بين مصر والشام، وبجند موصول بالله استعاد صلاح الدين القدس والمسجد الأقصى سنة 582هـ
وفي العاشر من رمضان حين تقدَّم الجند تحت صيحة الله أكبر، عبر الله بهم القنال، وتقدموا في سيناء.. وفي معركة الفرقان الأخيرة في غزة اندحر الصهاينة خاسئين لم ينالوا خيرًا.. ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40).

 

في رمضان زاد التغيير وعدة الانتصار

ما أعظم هذا الشهر المبارك!!، وما أعظم آثاره على النفس المسلمة!!، والارتقاء بها فوق المادة ووصلها بخالقها وتوثيق روابطها بمَن بيده ملكوت السموات والأرض.. ففي رمضان المبارك ينعم المسلم بالصيام والقيام وتلاوة القرآن والقرب من الله بالاعتكاف.. وكل ذلك يرتقي بالمسلم.

 

1- الصوم وقوة الإرادة:

ففي الصوم تقويةٌ للإرادة، وتربيةٌ على الصبر؛ حيث يمتنع عن الطعام والشراب وسائر المفطرات، ولا رقيب عليه في ذلك إلا ربه، ولا سلطان إلا ضميره، ولا تسنده إلا إرادته القوية الواعية.

 

ومن أجل ذلك فإن رمضان شهر الصبر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل شيءٍ زكاة، وزكاة الجسد الصوم، والصوم نصف الصبر" (رواه ابن ماجه).

 

والصوم بما فيه من الصبر وفطام للنفوس؛ من أبرز وسائل الإسلام في إعداد المؤمن الصابر المرابط المجاهد، الذي يتحمَّل الشظف والجوع والحرمان، ويرحب بالشدة والخشونة وقسوة العيش، ومن انتصر على نفسه كان على غيرها أقدر، ومَن صبر على الجوع والعطش كان على حصار الأعداء وما يتبعه من شدائد وآلام أصبر.

 

ولا يقدر على المطالبة بالحريات واسترداد الحقوق الضائعة والوقوف أمام المستبد الطاغي؛ إلا من ازداد إيمانه، وقويت عزيمته، وعلَت همته، فلم يخَف من ظالمٍ ولم ييأس من طول الطريق، ولم يضعف ولم يهُن من كثرة العقبات والمشقات، بل إن تمسكه بحقه ليزداد وشعوره بعزته ليقوَى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾ (آل عمران)، وقال تعالى: ﴿فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)﴾  (محمد).

 

2 - الاعتكاف مزيد قرب من الله:

وفي رمضان سنة الاعتكاف، وهو سموٌ روحيٌّ مهمٌّ، ولونٌ من ألوان الخلوة بالله، يجتهد فيه الموفَّقون لإصلاح قلوبهم، عن طريق الانقطاع الكامل والإقبال التام على الله بالصلاة والقراءة والذكر وترك شواغل الحياة وفضول الكلام والطعام والمنام، وكان هذا شأن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا" (رواه البخاري)، ومن أقبل على الله بقلبه، وانقطع عمن سواه، أقبل الله عليه بتأييده وتوفيقه ونصره.

 

3 - والقرآن روح يسري في القلب فيحييه:

يقول الإمام البنا: لقد قدم رمضان هذا للناس "نبيًّا وكتابًا" قامت عليهما أعظم نهضة إنسانية عرفها الوجود، وتمَّت بهما أضخم رسالة رأتها الدنيا، فكان النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، وكان الكتابُ هو القرآن الكريم، وكانت الرسالة إنشاءَ دين، وإحياءَ أمة، وإقامةَ دولة، مهمَّتُها في الوجود أن توحِّد الوجود تحت لواء المبادئ العليا، والمثل السامية، والفضائل الإنسانية الخالدة ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ (إبراهيم).

 

ومضى النبي صلى الله عليه وسلم قدُمًا يبلِّغ رسالته ويتلو على الناس كتابه، ودانت الجزيرة العربية، واندكَّ سلطان الكسروية! وتقلَّص ظل القيصرية، ورفرف لواء المبادئ القرآنية الجديدة، على ملك شامخ يمتدُّ من حدود الصين إلى الدار البيضاء، ومن قلب فرنسا إلى مجاهل إفريقية، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.

 

ثم ماذا؟ ثم دالت تلك الدولة، وتقلَّص هذا الظلُّ الوارف الممدود، بإهمالِ تعاليمِ الإسلام، وتنافسِ أهله على الملك والدنيا، وحسنِ ظنِّهم بالأعداء وبالأيام، وتأخرِهم عن الأعصار والأزمان، وجهلِهم بمقتضيات تغيرها وتطورِها، فنُسِي الدين، ونامت الأمة، وتفككت الدولة، وتفرق أمرها أيدي سبأ، وظن الناس أن قد قُضي الأمر، وطُوي هذا المجد أبد الدهر، وقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ﴿مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا﴾ (الأحزاب:  من الآية 12).

 

ولكنَّ الله العلي الكبير رب الرسالة والقرآن تكفَّل بحفظها: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)﴾ (الحجر)، ووعد بالدفاع عن أهلها: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحج: من الآية  38)، وذكر أن ذلك من سنته في خلقه: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (11)﴾ (يوسف).

 

نداء

أيها المسلمون:

تغيير الحال ليس من المحال، فأمامكم الكتاب الرباني يذكِّركم به شهر رمضان، فاعملوا به لعلكم تفلحون، وأمامكم سيرة الإنسان الكامل الذي أنقذ الله به الدنيا وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فاتبعوه لعلكم ترحمون، وأمامكم "الإخوان المسلمون" بدعوتهم إلى الكتاب، وإلى سيرة رسول هذا الكتاب، فلا عذرَ لأحدٍ بعد اليوم، ﴿والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ (يوسف: من الآية 21)،  والله أكبر ولله الحمد

 

 

 

وصلى الله على سيدنا محمد، النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين