تناهت إلى أسماعنا إبان الثورة السورية حكايات عن ضباط علويين -وإن كانوا قلة- وخصوصا في مدينة حمص، تعاطفوا مع المعتقلين، وكانوا يطلبون منهم إصدار أصوات التوجع والصراخ لإيهام من خارج الغرفة بأنهم يقومون بتعذيبهم في غرف التحقيق، الأمر الذي لم يكونوا يفعلونه. ولكن قصة هذا الضباط الكبير من ضباط النظام الذي قام بنقل شاب حمصي من الثوار في سيارته الخاصة والمخاطرة بإمراره معه على كل الحواجز الأمنية من حمص حتى مطار دمشق الدولي كانت شيئا مختلفا.
نزار شاب حمصي من أوائل من شارك في المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام. تم اعتقاله بسب نشاطه الثوري لمرتين، وتعرض للتعذيب في عدة أفرع أمنية، وبعد خروجه في المرة الأخيرة من المعتقل بالكاد حيا، ومهددا بالاعتقال للمرة الثالثة بسبب كون اسمه على لائحة المطلوبين؛ ألح عليه أهله بضرورة مغادرة حمص بالسرعة القصوى.
الرحيل المر والمستحيل من حمص كان محاولة البقاء الأخيرة لنزار، وكان لا بد من طريقة تسمح له بالمرور من الحواجز التي لا تنتهي في طريقة إلى مطار دمشق. لسبب أو بآخر ولدوافع لا نعلمها، تم التخطيط لرحلة الهروب بالتعاون مع أحد الضباط الكبار في الجيش النظامي السوري. اصطحب الضباط الكبير نزار في سيارته العسكرية الخاصة وبدأت رحلة من القلق المميت عند كل حاجز من حواجز الجيش. شعر نزار بهلع شديد عند كل حاجز، ورغم أن كل حاجز كان يشاهد سيارة الضابط العسكرية فيقوم بأداء التحية العسكرية له؛ إلا إن بعض الحواجز شكلت له موتا محققا.
كان هناك مشهد لم يغب عن ذهن نزار جعله يشعر بهلع شديد: أثناء مروره بسيارة الضابط على أحد الحواجز كان هناك فتاة تصرخ وتبكي وتطلب عون المارة وتقول لعناصر الحاجز: لماذا أخذتم أخي؟ لقد كان معكم، لقد كان مؤيدا لكم، لماذا اعتقلتموه إنه لم يفعل شيئا؟
وحين سمعها نزار أصبح يدور هذا الهاجس في ذهنه: إذا اعتقلوه وهو مؤيد لهم، فماذا سيفعلون حين يكتشفون هويتي الحقيقية، فلو نقر أحدهم مجرد نقرة صغيرة على جهاز الكمبيوتر أمامه لعرف من أنا.
بمعجزة إلهية ثم بمساعدة هذا الضابط وطمأنته، تم الخروج العجائبي من مدينة حمص وبدأ الطريق إلى دمشق. على طريق دمشق كان هناك حاجز كبير جدا يكاد يكون قطعة عسكرية وهو حاجز ذائع الصيت لكونه أصعب حاجز في سوريا: حاجز القطيفة. يقول نزار: طلب مني الضابط ألا أفتح فمي بكلمة واحدة وألا أعطيهم الهوية إذا طلبوها وهو سيتصرف.
أوقفنا الحاجز وطلب الهويات هنا تلفظت بالشهادتين وأيقنت أني هالك حتما؛ فإذا اكتشفوا هويتي الحمصية، وعرفوا من أنا فسأذهب إلى حتفي لا محالة. حين شاهد العناصر الضابط اكتفوا بأداء التحية العسكرية وسمحوا لنا بالمرور. واستمرت الرحلة نحو دمشق، مررنا في أثناء طريقنا بكل الأماكن ذات الأهمية الاستراتيجية للنظام منها وزارة الدفاع والآمرية الجوية وتجاوزنا كل تلك الحواجز بقدرة قادر، رغم شدة الخوف الذي شعرت به، إلا أننا تمكننا من استكمال رحلتنا نحو مطار دمشق الدولي بسلام.
يتابع نزار: على بوابة مطار دمشق الدولي، ودعني الضابط وحمد الله على سلامتي، فشكرته شكرا جزيلا، وكانت وصيته الأخيرة لي :لا تقل أنك ذاهب إلى تركيا فسيعتقلونك، قل لهم أنك ذاهب إلى لبنان. دخلت المطار وبدأت رحلة قلق جديدة لتجاوز كل نقاط الختم والتفتيش والموظفين الأمنيين حتى مغادرة الطائرة أرض الوطن.
استقلبني الموظف عند البوابة :إلى أين أنت ذاهب؟ وهنا دار في داخلي صراع: هل أكذب كما أوصاني الضابط وأقول أنني ذهاب إلى لبنان، والتذاكر التي بين يدي تقول أنني ذاهب إلى تركيا، أم أصدق وليكن ما يكون؟ وبعد هنيهات تفكير ظننتها سنين؛ قررت أن الصدق منجاة: فأنا حتى لو أردت أن أكذب فلن أستطيع وسوف يظهر ذلك عليّ. أجبته: إلى تركيا. لم يعلق الموظف بشيء وتجاوزته بسلام.
وصلت إلى البوابة الأخيرة التي تسبق صعودي إلى الطائرة، وهناك دار أمامي مشهد غريب. كان هناك سيدتان كرديتان يبدو أنهما ذاهبتان معي في الرحلة إلى تركيا، وكانتا واقفتين في الصف أمامي بانتظار ختم الجواز قبل الصعود إلى الطائرة. تكلمت السيدتان من بعضهما باللغة الكردية التي لا يفهمها الضابط الواقف على البوابة.
استدار الضابط إليهما وقام بتوجيه سيل من الشتائم والسباب القذرة إليهما، وقال: هل تظنان أن هذه لغة ومن أنتما حتى تتكلما بهذه اللغة أمامنا، اخرسا فإني لا أريد أن أسمع لغتكما. كتمت السيدتان دموعهما الحبيسة وكلماتهما ومرتا أمامه كسيرتين حتى تتخلصا من هذا الهوان وتتمكنان من العبور نحو مكان تنعمان فيه بحرية وعدل وسلام. زاد هذا الموقف من قلقي واضطرابي، فهذا الضابط لا يقيم اعتبارا لإنسان ولا لإنسانية ولا لرجل ولامرأة: فكيف سأمر من عنده؟
وقفت صامتا أمامه فقام بختم جوازي، وهنا تنفست الصعداء، الحمد لله ها قد تمكنت من الخلاص من قبضتهم الأمنية والآن سأغادر بدون أن يتم القبض علي. ولكن فرحتي لم تدم ثواني؛ ناداني أحد عناصر الأمن الذي كان واقفا بجانب البوابة وقال لي: أنت هناك، تعال. قلت في نفسي: إنها النهاية.
طلب مني العنصر جوازي فأعطيته إياه، وأخذ يدقق النظر فيه ثم قال لي: تعال معي. جئت معه وأنا أقرأ الفاتحة على نفسي وتخيلته يصطحبني إلى أحد مراكز الاعتقال كما في المرات السابقة.
توقف العنصر عند الضابط الذي قام بختم الجواز وقال له: كيف تختم له بتاريخ اليوم السابق، اليوم تاريخه كذا وكذا. قام الضابط بشطب الختم القديم وختم بختم اليوم الجديد.
وهكذا ولدت أنا من جديد، فكما يقولون: الخارج مولود والداخل مفقود، وتمكنت بعد رحلة مريرة من الخوف والقلق من العبور إلى بوابة الطائرة والمغادرة إلى أرض فيها شيء من الأمان، بعد أن حول النظام وأعوانه سوريا إلى كوكب كبير للرعب والقتل والاعتقال لكل إنسان حر يرفض الظلم والهوان، فأصبح حلم ملايين السوريين أن يشعروا ولو بالقليل من الأمن والاستقرار والعزة والكرامة في بلادهم بدون أن يكون الثمن موتهم المحتم أو تهجيرهم القسري.
التقرير