وليد شوشة


أشعل القمع التي اشتهرت به بعض الأنظمة السلطوية في المنطقة العربية ؛ الشرارة الأولي للثورات الشعبية العربية . في تونس كان إشعال "البوعزيزي " النار في جسده ، بعد إهانة من شرطية ، سبباً لاشتعال ثورة الياسمين . وفي مصر قُتل شاب الإسكندرية "خالد سعيد " بطريقة وحشية علي يد رجال الشرطة ، فرفع الشباب الذين ضاقوا ذرعاً بقمع وزارة الداخلية شعار " كلنا خالد سعيد " وأسسوا صفحة تحمل نفس العنوان علي الفيس بوك . ثم كانت الدعوات لتظاهرات يناير ضد القمع وتمدد جهاز الأمن وتجاوزاته، واختاروا يوم الخامس والعشرين ليوافق عيد الشرطة . وفي سوريا كان العقاب الوحشي لبعض الأطفال من جانب رجال الأمن كافياً لهبَّة أهل دِرعا ، ثم كانت هبَّة الشعب السوري وثورته.


ومما يُؤْسف له تصريح ضابط المخابرات المركزية السابق روبرت باير: "إذا كنت ترغب في استجواب جاد، أرسل المعتقلين إلى الأردن، وإذا كنت تريد أن يتعرضوا للتعذيب، يمكنك إرسالهم إلى سوريا. أما إذا كنت تريد أن يختفوا ولا يظهرا مرة أخرى، يجب عليك أن ترسلهم إلى مصر" .


لقد ضاقت الشعوب ذرعاً بتسلط الأجهزة الأمنية ، وترك الحبل لها علي غاربه تفعل ما تشاء ،وتتحكم في أعناق الناس وقد أَمِنت المساءلة والعقوبة ، وقد قيل: " من أمن العقوبة أساء الأدب ". حتي أصبح القتل أسهل من الكلام ، واستُبيحت دماء المواطنين بلا ذنب ، وغدا صوت الرصاص أعلي من صوت العقل والحوار .ويوم اختلف رجل مع ضابط شرطة أو وكيل نيابة علي أولوية صف السيارة وقد تمسك الرجل بأحقيته في المكان ،كان جزاؤه القتل.


لقد صار القمع مرضاً مُزمناً ومُعْدياً ينتقل من القيادات العليا في الأجهزة الأمنية إلي من دونهم ، حتي ظهر في أبشع صُوره عند أمناء الشرطة والمجندين ؛ الذين ثبت لديهم أنهم فوق القانون ، وفوق المسائلة والمحاسبة . وأكدت تسريبات السيسي عندما كان وزيراً للدفاع علي عدم محاسبة الضباط ممارسي القمع :( لن يصل إلى أن يضرب الضابط متظاهر بغاز أو قنابل أو خرطوش .. حد يموت أو تحصل له حاجة في عينه فيتحاكم الضابط لا مش هيحصل خالص)، وقد جسَّد المخرج يوسف شاهين في آخر أعماله (هي فوضي)، قمع وفساد رجال الشرطة في شخصية "حاتم " أمين الشرطة ، هذه الشخصية العنيفة المريضة ؛ كذراع للسلطة في القمع والرشوة والمحسوبية وتزوير الانتخابات، بالإضافة إلى استغلال منصبه أسوأ استغلال لتحقيق مآربه ومصالحه . مما أثَّر علي سلوكهم اليومي وتعاملاتهم ، وصاروا كأنهم بلا عقول أو مرضي نفسانيون. ولقد رأيت بعض أفراد الشرطة يقتادون شابين بلا جريرة ولا ذنب ،كانا عائدين إلي قريتهما من عملهما بالمدينة ؛ إلي المخفر مع أنهما كانا يحملان بطاقاتهما ، وهناك انهال عليهم الضابط ضرباً وصفعاً علي وجوههم . ولما سألته لماذا ؟! قال : أتسلى .


بهذه البساطة أصبحت الإهانة : تسلية ، والنَيْلُ من الضعفاء : تضييع وقت ، ورؤية دماء الأبرياء وهي تسيل : لذة ؟!


فلا أدري كيف يستطيع هؤلاء أن يُغمضوا عيونهم ليلاً ليناموا ؟! وكيف يتلذذون بطعام يأكلونه؟! وكيف يلاعبون أولادهم وقد حَرموا أبناء غيرهم آباءهم ؟!
وجاء الانقلاب العسكري : فقويت شوكة رجال الأمن وعَظُم بطشهم ، وغابت محاسبتهم ؛ فقتلوا الآمنين في بيوتهم ، وأصبحت التصفية الجسدية نهجاً وطريقة في التعامل، فيكفي الاشتباه ليكون القتل مهما كان العدد ( والشباب الخمسة الذين قُتلوا لمجرد الاشتباه في مقتل الايطالي رجيني ليس منَّا ببعيد ،وقد تبين بعد ذلك أنهم لم يكن لهم لا ناقة ولا جمل بالباحث القتيل). وضابط يقتل سائق " تُكتُك" لمجرد مزاحمته في الطريق. ويقتحم رجال الشرطة بُيوت المعتقلين في دمياط ويحرقونها ويُشعلون النار في أثاثها . والخطف والإخفاء القسري علي أشده. والتعذيب البشع في مقار الأمن - التي تحولت إلي سلخانات بشرية - وفي المعتقلات لم تنقطع . والموت جَرَّاء الإهمال الطبي كل يوم. "وفي عام 2015 تمّ تسجيل أكثر من 1250 حالة اختفاء قسري ، وما يزيد عن 3002 طفل دون السن في السجون منذ الانقلاب ، و267 حالة قتل خارج نطاق القانون ،وما يزيد على 40 ألف معتقل ".


ولم يتوقف قمع الأجهزة الأمنية عند المصريين فحسب ، بل طال حتي الأجانب ، وكان آخرهم الباحث الايطالي ( جوليو ريجيني ) والذي تربط بلده علاقات قوية واقتصادية بمصر، لم يسلم هو أيضاً من قمعهم ، فقد قُتل تحت التعذيب ووجدوا جثته المشوهة مُلقاة علي طريق مصر- اسكندرية الصحراوي .وتصفه أمه بعدما رأت جثته : "لن أقول لكم ما فعلوا به، فقد تعرفت على ولدي فقط من خلال طرف أنفه، أما الباقي فلم يعد هو ".


إن القمع المستشري في مصر الآن : فاق كل حدود ، وتجاوز كل الخطوط الحمراء ، وانتهك كل الحرمات من سجن النساء واغتصاب الفتيات والأطفال .هذا الحِمْل الثقيل قد جر علي البلاد الخراب ، وأشاع الفساد ، وساعد علي انهيار الاقتصاد ، وهَجَّر الكفاءات ، وعطَّل عجلة العمل والتنمية والإنتاج ، وقضى علي السياحة وطَرد السائحين ( المصدر الأهم للدَخْل والعملة الأجنبية)، وكان من نتيجته حظر الطيران والسفر إلي مصر – كما في حالة روسيا وايطاليا- فأغلت الفنادق أبوابها ، وسرحت موظفيها الذين فقدوا رواتبهم .


ولا سبيل لنهضة الوطن وتقدمه سوى بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية ،والكرامة الإنسانية، واحترام حقوق الإنسان وتفعيل آلية المسائلة والمحاسبة، والقضاء علي القمع وتجريمه .


لقد طفح الكيل ، وبلغ السيل الزُبَى ، وأصبح المناخ خطيراً وغائماً، ولابد أن يصاحبه العواصف والرياح . والثمن سيكون فادحاً، وأنظمة القمع سيجرفها سيل الغضب المحبوس في الصدور. والخطر كل الخطر في أن يقف الشعب وجهاً لوجه أمام جيشه وشرطته ، ليثأر منهم لنفسه أو عرضه أو أهله ، وقد حدث مما كنا نحذره حين هجم شاب في سيناء علي كمين للجيش فقتل ضابطين ومُجندين وأصاب تسعة مجندين آخرين ثأراً لمقتل أسرته . فالانفجار آتٍ لا محالة.
إن بيئة القمع بيئة عفنة لا ينبت فيها غير بذور الارهاب والعنف والثأر ، ولا ينمو فيها سوى الكفر بالسلمية والحوار . وأرى كثيرين في الداخل والخارج يعملون جاهدين علي حماية هذه البيئة ورعاية بذورها وتوسعتها ، ولن يجني الحصاد المر سوى الوطن وهلاك مؤسساته وضياع مستقبل أبنائه .

إن " مصر تصغر كثيراً بالإجراءات القمعية التي تُمارس أو التي يجرى طبخها إذ تتحول إلى جمهورية «سوفيتية» خارج التاريخ، أما الذين يوجهون أو يمارسون تلك الإجراءات وكذلك الساكتون عليها فمكانهم محفوظ على رصيف التاريخ ومكبّات قمامته. فضلا عن أنهم لن يفلتوا من الحساب، على الأقل من جانب الذى يمهل ولا يهمل". كما يقول الكاتب فهمي هويدي.

 


المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها فقط ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع