26/04/2009

حديث من القلب إلى الإخوان المسلمين    

(2) الأخ القرآني

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه..

كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن..

أرادت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تقدِّم لنا شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سُئلت عن أخلاقه، فقالت للسائل: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قال: بَلَى، قَالَت: "فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْقُرْآنَ" (مسلم)، وفي حديث آخر قَالَتْ: "كَانَ خلقُهُ الْقُرْآنَ، يَغْضَبُ لِغَضَبِهِ، وَيَرْضَى لِرِضَاهُ" (مسلم).

في بعض الروايات أن أم المؤمنين أرادت أن تقدِّم صورةً عمليةً تفسيريةً لهذا، فقالت للسائل: "تقرءون سورة (المؤمنون) التي مطلعها ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)? إلى قوله: ?...أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ(10)? (المؤمنون: من الآية 1 إلى 10) قال: نعم. قالت: "كان هذا خُلُقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم" (البخاري في الأدب)، أي أن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ترجمةً عمليةً لكتاب الله، فكان صلى الله عليه وسلم قرآنًا يمشي بين الناس. 

شخصية الأخ القرآني..

أيها الإخوان..

لهذا عُني الإخوان المسلمون بأن يجعلوا كتابَ الله تبارك وتعالى أولَ أورادهم، وكان من تعهُّدهم أن يرتب الأخ على نفسه كل يومٍ جزءًا على الأقل من القرآن الكريم يتلوه؛ كما يرتب على نفسه قدرًا من الآيات يحفظه؛ إدراكًا من الإخوان لفضل القرآن وأثره العظيم في التربية. 

لكنَّ الأخَ المسلمَ القرآنيَّ لا يقبل أن يكون القرآنُ عنده مجردَ كلامٍ يُتْلَى أو ترنيماتٍ تُسْمَع، بل هو تعليماتٌ تُحْفَظ، وتوجيهاتٌ تُنَفَّذ، وتربيةٌ تظهر في السلوك والأخلاق، وهذا ما ينبهنا إليه سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين يقول: "ينبغي لحامل القرآن أن يُعْرَف بليلِه- أي بقيام الليل- إذا الناسُ نائمون، وبنهارِه- يعني بصيام نهاره- إذا الناسُ يفطرون، وبِحُزْنِه إذا الناسُ يفرحون، وببكائِه إذا الناسُ يضحكون، وبصَمْتِه إذا الناسُ يخلطون، وبِخُشُوعِهِ إذا الناسُ يَخْتالون، وينبغي لحاملِ القرآنِ أن يكونَ باكيًا محزونًا حكيمًا حليمًا عليمًا سِكِّيتًا، وينبغي لحاملِ القرآنِ أن لا يكونَ جافيًا ولا غافلاً ولا صخَّابًا ولا صيَّاحًا ولا حَدِيدًا" (حلية الأولياء). 

وليس حزنُ الأخ القرآني حزنًا على ما فاته من الدنيا، لكنه حزنٌ على تقصيره في حق الله، وحزنٌ على أنه لم يكن أفضلَ من ذلك؛ فينهض إلى التجويد والتحسين، ويتحوَّل من الكسل والفتور إلى العمل والنشاط. 

وهكذا كان أبو بكر وعمر وسائر الصحابة، كما وصفتهم أسماء بنت أبي بكر، إذا سمعوا القرآن "تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله" (البيهقي في الشُّعَب). 

القرآني مصلح مجاهد..

أيها الإخوان..

لكنَّ هذا الشخصَ القرآنيَّ الباكيَ المحزونَ، إذا جدَّ الجِدُّ، ودعا داعي الجهاد كان فارسَ الميدان، وإذا دخل ميدانَ السياسة كان أبصرَ الناس بالمصالح والمفاسد، وأقضى الناس لحاجات العباد، وإذا عامل الناس بالدينار والدرهم كان أصدقَ الناس وأكثرَهم أمانةً، وإذا دخل بيتَه كان أحسنَ الناس عشرةً وتربيةً للأبناء، وإذا رأى الفسادَ والمنكرَ كان أشدَّ الناس بغضًا له وسعيًا في إنكاره وإزالته، وإذا دعاه الوطن للتضحية كان أسرعَ الناس تلبيةً للنداء، وأسخاهم يدًا بالبذل والعطاء.

فأبو بكر الذي يبكي عند تلاوة وسماع القرآن هو الذي وقف وقفة الأسد حين ارتدَّ المرتدون، وقال: "والله لأقاتلنهم ولو انفردت سالفتي"، وعمر بن الخطاب الذي كان بكاؤه عند القراءة يُسْمَع في آخر المسجد؛ هو الذي فتح بيتَ المقدس وبلادَ فارس والروم، وعمر بن عبد العزيز الذي وقع مغشيًّا عليه من سماع آية من القرآن؛ هو الخليفة الحازم الذي أصلح الله به ما اعوجَّ من أمر هذه الأمة، وهكذا حرَّك القرآن الإخوان المسلمين إلى حمل راية الجهاد في كل الميادين، بدءًا من ميدان جهاد النفوس حتى ميدان قتال أعداء الله وأعداء الأمة، والأمثلة أكثر من أن تحصر.

شخصية الأخ كما يريدها الإخوان المسلمون..

أيها الإخوان..

الشخصية القرآنية شخصية تجمع الخير من جميع جوانبه، وتحرص على صلاح القلب وصلاح البدن، وتحرص على أن تأخذ من الدنيا حظَّها، وألا تدع في الآخرة نصيبها، وتردِّد صباحًا ومساءً ?قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ? (الأنعام: من الآية 162)، فليست صلاتها فقط وليس نسكها فقط لله رب العالمين، بل حياتها كلها لله، بل مماتها لله رب العالمين. 

هذه هي الشخصية التي يريدها الإخوان المسلمون، والتي يصنعها القرآن الكريم، فتُبَيِّض وجهَ الحياة وتُنَضِّر جبينَ الدنيا، بالعمل الجادِّ والدعوة الدائبة إلى الله على بصيرة، حتى يُحقَّ الله الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، فأقبِلوا على القرآن أيها الإخوان، وتضلَّعوا من علومه ومعارفه، وتأدَّبوا بآدابه، وحقِّقوا في واقعكم معنى هتافكم الدائم (القرآن دستورنا)، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.

 

وإلى لقاء آخر مع (حديث من القلب) أستودعكم الله.. والله أكبر ولله الحمد.

محمد مهدي عاكف  

المرشد العام للإخوان المسلمين

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

حديث من القلب إلى الإخوان المسلمين      

 

19/04/2009

(1) وقل اعملوا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه..

قال تعالى: ?وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ? (التوبة: من الآية 105)؛ أي أن عملكم لا يخفى على الله ولا على رسوله ولا على المؤمنين، ومن علم أن عمله لا يخفى رغب في أعمال الخير، وتجنَّب أعمالَ الشرَّ، بهمَّةٍ عاليةٍ مع إخلاص النية لله عزَّ وجلَّ، فالهمَّة العالية والنيَّة الخالصة إذا اجتمعتا بلغتا بالعبد غايةَ المراد.. قال تعالى: ?فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ? (محمد: من الآية 21).

الرسالة العظيمة لا بدَّ لها من همَّة عالية..

أيها الإخوان.. هذا نداءُ الله إليكم وإلى الناس أجمعين، وأنتم أَولى الناس بالمسارعة في الطاعات؛ لأنكم تحملون أعظم رسالة.. رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، التي تحمل الخيرَ للدنيا بأسْرها، والتي لا يمكن أن تبلغَ غايتَها إلا بدعاةٍ يأخذون دينَهم بقوةٍ، ويتحمَّلون المسئوليةَ بجدٍّ وعزمٍ، قال تعالى: ?يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ? (مريم: من الآية 12)، وقال: ?وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ? (الأعراف: من الآية 145) وقال: ?خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ? (البقرة: من الآية 63).

فأَخْذُ هذا الكتابِ وحَمْلُ هذه الرسالةِ يحتاج إلى إحساسٍ عظيمٍ بالمسئولية، وشدةِ عزيمة وقوة شكيمة, ولا يطيق ذلك إلا الكرامُ الأخيارُ المستعدُّون للبذل والتضحية.. يقول الأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله لشباب الدعوة: "إنما تنجحُ الفكرةُ إذا قَوِيَ الإيمانُ بها، وتوفَّر الإخلاصُ في سبيلها، وازدادت الحماسةُ لها، ووُجد الاستعدادُ الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها".

أنتم الرواحل في هذه الأمة..

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لاَ يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً" وفي رواية: "لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً" (رواه الشيخان)، والراحلة: هي الجملُ النجيبُ القويُّ على حمل الأثقال وطول الأسفار مع جمال المنظر وحسن الهيئة، وهو قليلٌ نادرٌ، وكذلك المُنْتَجَبون من الناس القادرون على حمل الأعباء وتحمُّل المشاقِّ والتضحية من أجل الغايات العظيمة؛ هم قلة، لا تكاد تعثر في كل مائةٍ من الناس على واحدٍ منهم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ نَعْلَمُ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مِائَةٍ مِثْلِهِ إِلَّا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ" (أحمد) وفي رواية: "لا نَعْلَمُ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ أَلْفٍ مِثْلِهُ إِلَّا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ" (الطبراني)، ولمثل هذا تتم عملية التربية في دعوتكم، أيها الإخوان، فلستم من أولئك الذين قيل فيهم:

إنّي لأفتَحُ عَينِيَ حِينَ أفتَحُها        عَلَى كَثِيرٍ ولكن لا أرى أحَدا

بل إنكم تهيِّئون أنفسكم للقيام بدورٍ عظيمٍ في خدمة دينِكم وأمتِكم، تنهضون به، وتُنْهِضون الأمةَ معكم، ولهذا قال الإمامُ الشهيدُ المؤسِّسُ رحمه الله: "ومن هنا كثُرتْ واجباتُكم، ومن هنا عظُمتْ تبعاتُكم، ومن هنا تضاعفت حقوقُ أمتكم عليكم، ومن هنا ثقُلت الأمانةُ في أعناقكم، ومن هنا وجب عليكم أن تفكِّروا طويلاً، وأن تعملوا كثيرًا، وأن تحدِّدوا موقفَكم، وأن تتقدَّموا للإنقاذ، وأن تُعْطُوا الأمةَ حقَّها كاملاً من هذا الشباب".

لا تكونوا إمعات..

أيها الإخوان، إن وضوحَ أهدافِكم ونُبلَ غاياتِكم وسُمُوَّ مقاصدِكم، وتَفَهُّمَكم لحاجةِ الدنيا إلى دعوتكم لحَرِيٌّ أن يجددَ عزائمكم ويطلقَ طاقاتكم، ويدفعَكم إلى مقدمة صفوف المصلحين، ويمنعكم من التكاسل والفتور، أو التراخي والتردُّد، أو الاتصاف بالإمعية، وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ؛ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلاَ تَظْلِمُوا" (الترمذي).

يقول الأخ الأستاذ البهي الخولي رحمه الله: "إن الداعية يجب أن يشعر بأن دعوتَه حيَّةٌ في أعصابه، متوهِّجة في ضميره، تصيح في دمائه، فتُعْجِله عن الراحة والدعة إلى الحركة والعمل، وتشغله بها في نفسه وولده وماله، وهذا هو الداعيةُ الصادقُ الذي تُحِسُّ إيمانَه بدعوتِه في النظرةِ والحركةِ والإشارةِ، وفي السِّمَةِ التي تختلط بماءِ وجهِه".

من هذا المنطلق أردت أن أناجيَكم- أيها الأحبةُ- بهذه السلسلةِ من (حديث من القلب) أذكِّركم ونفسي فيه بواجبنا الأكبر ومهمَّتنا العظيمة، لتنهض هممُنا، وتَنْشط عزائمُنا، ونغادر الكسلَ والفتورَ، ونكون عند أمرِ الله لنا، وعند حُسْنِ ظنِّ أمتِنا بنا، لا يثنينا عن واجبنا ودعوتنا كثرةُ الخصوم ولا تكالب قوى الشر.

وأنا على يقينٍ أننا إذا حقَّقنا القوةَ في حَمْل دعوتِنا فسيقرِّب الله يومَ النصر ويحققُ الآمال، قال تعالى ?وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ? (الأعراف: 170).

وتأمَّل أخي الكريم ما في قوله ?يُمَسِّكُونَ? من دلالةٍ على القوة والحرص والعزم والجزم والهمَّة في الأخذ بالكتاب!.

وإلى لقاء آخر مع (حديث من القلب) أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.. والله أكبر ولله الحمد.

محمد مهدي عاكف

المرشد العام للإخوان المسلمين