نافذة مصر
"أحتار فيما يمكن أن أكتبه في ذكرى ثلاثمائة يوم على تقييد حريتي، و انتزاعي من أهلي و العالم لأكون رهن جدران أربعة يتعاقب عليها الليل والنهار لا تكاد تميز فيها جيدًا إلا نور الصباح أو عتمة الليل أو صوت الطيور والبشر والسيارات المنطلق وصوت الطائرات في السماء ..
وحين أكتب هذا الخطاب على غفلة من السجان ولا أدري إن كان سيصل للعالم أم لا وفي زنزانة انفرادية قضيت فيها ما مضى من ثلاثة وعشرين يومًا بسجن العقرب، إذ أكتب هذا الكلام تتزاحم على طرف لساني وفي عقلي آلاف الخواطر.
أيام لا تعلم فيها إن كان أهلك - وقد رأيتهم في تلك الفترة مرة واحدة - بحال جيدة، أو ما إذا كان العالم لا زال كما عهدته وقصصه وأنت قد غدوت بلا مصدر للأخبار .. تمامًا. وفوق ذلك تجلس يومك كله وحيدًا، لا تختلط بأحد ولا تخرج إلا لدقائق في آخر النهار وحدك، و هذا كله أمر واستمرارك ممتنعًا عن الطعام أمرًا آخر، فيكون أصعب وأشد إذ أنت بلا ونيس ولا عمل.
وقد جربت ما هو أشد خلال آخر 8 أيام من مايو بالامتناع عن الماء أيضًا حتى فقدت الوعي لمدة لا أعلمها فأنا لا أستطيع حساب الوقت في هذا المكان. وبعدها عندما لفظ جسدي دمًا "كنزيف" وسوائل لا أعلم ماهيتها، حينها جائني طبيب قال أن جسدي ينذرني بأن الكلية قد تتوقف، ثم عدت مرة أخرى للماء وبدأت أشرب بعض العصير أحيانًا.
وفي هذه الأيام أيضًا يأتيني من الناس مأمور السجن ومفتش المباحث وغيرهم إما لحديث عن الإضراب أو لتفتيش ما بحثًا عن شيء مجهول ثلاث مرات في الأسبوع.
أنا صحفي، قرأت في سياسات الأنظمة كثيرًا، أدرك أن السلطة التي تحتجزني الآن وتعزلني عن العالم كله قد تكون تفعل ذلك لتضغط على أهلي بإشاعات عن كسري للإضراب الذي أخوضه كمعركة حياتي، أو ليجعلوا الناس يصدقوا تلك الشائعات ويكسروني بخسارتي دعم الناس. لكنهم لا يدركون أنني قد اجتزت تلك المرحلة تمامًا.
فأما عن المعركة فأنا قد انتصرت فيها منذ أن بدأت أجهزة تلك الدولة كلها تحارب إضرابي وأنا فرد واحد أعزل، وأما عن كسري فلم يكن لمن امتلك إرادة كإرادتي أن ينكسر أبدًا، وأما عن الضغط على زوجتي وعائلتي فهم لا يعرفونهم كما أعرفهم أنا، و لا يعرفون أن الضغط يزيد أمثالنًا إصرارًا. وأما عن دعم الناس فمن صدقني وصدق قضيتي من البداية لن يخذلني الآن، ومن كذبني وكذب قضيتي أيضًا من البداية لن يصدق وإن رأى أهلي يتسلمون جسدي وقد صعدت منه الروح بعد إضراب استمر شهور..
أنا لا أدري كم بقي لي على قيد الحياة في تلك الدنيا، لكنني وإن مت الآن يكفيني ليريحني أنني مدرك أن المعركة ستستمر وأن الحرية ستنتصر يومًا، وأن هناك الملايين من الصحفيين في العالم سيتذكرون أن هناك شابًا قدم حياته لئلا تقيد حرية أحدهم أبدًا. وليعلم كل صحفي في العالم، أن له الحق الكامل المطلق أن يغطي أي حدث كما يراه أمام عينه بكل شفافية ووضوح ويترك المشاهد أو القارئ وحده يحكم على ما يراه.
وليعلم كل إنسان أنه لا حق لأحد أن يقيد حريته دون ذنب أو جريمة. أنا قد أديت رسالتي .. ونهاية كلامي وليس بعد خلاف أنني مستمر في معركتي، فإما أن أنال حريتي كاملة، أو أن أحدهم سيأتي بعد رحيلي عن الدنيا ليكمل ما بدأته أنا.
ومرة أخرى .. الحرية وعد لمن يظل وفيًا لها.
عبد الله الشامي - 9:24 مساءًا – انفرادي H3 سجن العقرب – 3 يونيو 2014"