وليد شوشة

 

أيها الراكب الميمم أرضي .... أقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرض .... وفؤادي ومالكيه بأرضي
قدر البين بيننا فافترقنا .... وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا .... فعسى باجتماعنا سوف يقضي
بهذا الكلمات ، وهذه العاطفة الجياشة ، خاطب عبد الرحمن الداخل قافلة متجهة إلي الشام ،بعد أن استتب له الحكم في الأندلس ، وقد تذكر غربته ، واشتاق إلي وطنه.
وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن بلالاً رضي الله عنه لما قدم المدينة وُعك ، وإذا أقلع عنه الحُمَّى يرفع عقيرته ويقول : ألا ليتَ شِعرى هل اْبيتنَّ ليلةً * بوادٍ وحولي إِذْخَرٌ وجَليل
وهل أرِدَنْ يوما مياه مَجَنَّة * وهل يَبْدُوَنْ لي شامةٌ وطَفِيل
قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرتُه، فقال: " اللهمَّ حببْ إلينا المدينة كحبّنا مكةَ أو أشد، وصحّحْها، وبارك لنا في صاعها ومُدِّها، وانقل حمَّاها فاجعلها بالجُحفة".
ويقف رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد خروجه من الغار ، ويلتفت إلي مكة "أمَا والله لأخرج منك، وأني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلىَّ، وأكرمه على الله ، ولولا أن أهلك أخرجوني منكِ مَا خرجت" ويضرب لنا الرسول الانسان صلي الله عليه وسلم المثل والقدوة في حب الأوطان فيُخاطب مكة ، وكأنها حبيب يُغادره بعاطفة وحب ، لقد حركت ذكريات الطفولة ، والأهل والنشأة والصحب والأحباب ونزول الوحي ،وبيت الله الحرام ؛ حركوا الحنين والشوق حتي قال :" ما أطيبك من بلد ، وأحبّك إلىّ! ولولا أن قومك أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرك". وكم حركت كلماته في نفوسنا اللعنات علي كل الطغاة والظالمين الذين يفرقون بين الوطن ومواطنيه ، بين المحب ومحبوبه ، بين الناس وأهاليهم وذكرياتهم وأصحابهم . ألا لعنة الله علي كل من أخرج الناس من أوطانهم قسراً بغير ذنب ! ففرقوا بين أرواحهم التي بقيت في أوطانهم ، وبين أجسادهم التي رحلت بهم . وهذا ما جعل خير الدين الزركلي يقول :
العين بعد فراقها الوطنا ** لا ساكنا ألفت ولا سكنا
ريانة بالدمع أقلقها ** أن لا تحس كرى ولا وسنا
ليت الذين احبهم علموا ** وهم هنالك ما لقيت هنا
ما كنت احسبني مفارقهم ** حتى تفارق روحي البدنا
إن حب الأوطان فطرة إنسانية فطر الله الناس عليها مع اختلاف أجناسهم وأنواعهم . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : عَمَّر اللهُ البلدانَ بحب الأوطان . وقال ابن الزبير : ليس الناس بشيء من أقسامهم (أي ما قسمه الله لهم من الأرزاق والحظوظ) أقنع منهم بأوطانهم . وقد قيل : من علامة الرشد أن تكون النفس لبلدها تواقة وإلى مسقط رأسها مشتاقة . وقالوا في بلاد الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك.
ولم تُنس الأيام ومرورها ، والنبوة ومتطلباتها النبي صلي الله عليه وسلم مكة ، ولا السؤال عنها وعن أحوالها كلما زاره منها زائر. روي ابن شهاب الزهري قال : "قدم أصَيْلٌ الغفاري قبل أن يُضرب الحجابُ على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل على عائشة رضي الله عنها، فقالت له: يا أصَيْل، كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها. قالت: أقمْ حتي يأتيك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم يلبث أن دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا أُصَيْل، كيَف عهدت مكة ؟) قال: عهدتُها والله قد أخصب جنابها، وابيضتْ بطحاؤها ، وأعذق إذخرها، وأسلب ثُمامُها، وأمْشَر سَلْمُها. فقال: حسبك يا أصَيْل لا تُحْزِنَّا"
وفي رواية أنه قال له: (يا أصَيْل، دع القلوبَ تقر).
ومن حب الأوطان رعايتها ، وتنميتها ، والدفاع عنها ضد كل من يريد بها الشر والسوء ، واعتبار من يخونها ويتعامل مع أعدائها خائن يستحق العقاب مهما كانت المعاذير. وجعل القرآن الخروج من الأوطان عقوبة للمفسدين الذين يُشيعون في الأرض فساداً ، فكان جزاؤهم أن يُنفوا من الأرض ، ويخرجوا من الوطن لعدم صلاحيتهم للبقاء فيه كما جاء في سورة المائدة .
وقد اشترط بعض الحكماء حنين الرجل وتلهفه إلي وطنه شرطاً للوفاء. فلما "سُئل أحدهم : بِأَيِّ شَيْءٍ يُعْرَفُ وَفَاءُ الرَّجُلِ دُونَ تَجْرِبَةٍ وَاخْتِبَارٍ ؟ قَالَ: بِحَنِينِهِ إلَى أَوْطَانِهِ ، وَتَلَهُّفِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ زَمَانِهِ " .واعتبر آخر حب الوطن من الطباع المستولية علي الإنسان ، فقال : "محبة الوطن مستوليةٌ على الطِّباع ، مُسْتدعيةٌ لشدة الشوق إليها والنِّزاع". ويري جالينوس الحكيم أن علاقة الانسان بوطنه كالعلاقة التي تربط الحبة بالمطر لتنبت وتنمو فقال : " يَتَروح العليل بنسيم أرضه ، كما تنبتُ الحبَّة ببلِّ القطر". وينصح آخر بالوفاء للوطن فيقول : "احفظ بلدًا رشَحك غذاؤه - أي: قَوَّاك - وارعَ حمىً أكنَّك فناؤه ، وأولى البلدان بصبابتك إليه ، بلد رضعت ماءه ، وطعمت غذاءه". وجعل أديب الحنين إلي الوطن من علامات العاقل ، فقال :" "من أماراتِ العاقل بِّره لإخوانه ، وحنينه لأوطانه ، ومداراته لأهل زمانه ". وذهب آخر مذهبا بعيداً حيث قال : "ليس الإنسانُ أقنع بشيء منه بوطنه ؛ لأنَّه يتبرم بكل شيء رديء ، ويتذمّم من كل شيء كريه إلا من وطنه ، وإنْ كان رديء التربة ، كريه الغذاء ، ولولا حبُّ الناس للأوطان لخربت البلدان".
والحاكم ليس الوطن ، بل هو متعاقد لخدمة الوطن ورعاية شؤون المواطنين ، ويجب أن يكون الفرق بينهما واضح ، فالحاكم متغير والوطن ثابت ، وليس ما يمنع من حب الحاكم لما ينشره من خير ، ويظهر من بر ، ويجتهد في رفعة البلاد وخدمة العباد. ولكن الولاء للوطن والارتباط به ، فإذا أساء الحاكم وأخطأ فيجب أن يتحمل هو لا الوطن مسؤولية الخطأ ، والحب والبغض يجب أن يكون بعيداً عن الأوطان ، ومن الظلم أن يتحمل الوطن اللعنات والسباب من كل من لم يجد حقه في العمل والسكن والزواج والإعالة أو عدم التساوي في الحقوق والمعاملات ....الخ.
وحب الوطن انما يعني أول ما يعني الدفاع عنه ، والتضحية في سبيله ، والوقوف في وجه كل من يعيق نهضته ، أو يعرضه للضعف والتخلف ، أو يفرق بين ساكنيه في الحقوق والواجبات ، والمعيشة والوظيفة والعدالة الاجتماعية . ورحم الله إبراهيم بن أدهم حين قال : " "عالجتُ العباد فلم أجد شيئًا أشدَّ عليَّ من نزاع النفس إلى الوطن". وقال : "ما قاسيتُ فيما تركتُ شيئًا أشدَّ عليَّ من مفارقة الأوطان".
فإليك يا وطني " وطني لو شغلت بالخلد عنه ** نازعتني إليه في الخلد نفسي".