خميس النقيبب

 

اخبرنا الله – تبارك وتعالى – في كتابه عن صفات قوم يمتلكون الاستعلاء والصمود فقال تعالى: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" [آل عمران – 139].

فمن صفاتهم أنهم لا يهونون في هذه الحياة. وكيف يهونون وهم جند الله وخليفته في هذه الحياة. وكيف يهونون وهم رافعو لواء الحق في الحياة؟ ورافعوا راية الإيمان في الأرض ومن صفاتهم أنهم لا يحزنون؛ فهم مؤمنون بقدر الله، وأن ما أصابهم ما كان ليخطئهم، وما أخطأهم ما كان ليصيبهم.

وهم لا يحزنون؛ فهم أتباع الرسل والأنبياء، ساروا على دربهم، وعلموا أن ما أصابهم فقد أصاب الرسل ولحق بأصحاب المبادئ على مر العصور.

كيف لمسلم يستشعر هذه المعاني، ويعيش بروح الهزيمة والدونية، ويشعر بأن غيره أفضل منه، حتى لو أُعطي كنوز الدنيا، أو أٌعطي ملك الأرض، إنه عمل متواصل لا ينقطع وجهاد دائم لا يكل ولا يمل..

تجدهم شجعان في مواطن البأس ثابتون في مواضع الشدة لا تتزلزل لهم قدم ولا يتزعزع لهم ركن ولا تلين لهم قناة، لا يخشون العملاء قلوا أو كثروا ولا يبالون بالأعداء زادوا أو نقصوا، لا يخافون إلا من ذنوبهم ولا يفزعون إلا من سخط ربهم..

أما إذا قيل لهم أعداؤكم أكثر عددا يردون من كتاب ربهم "كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرين" [البقرة 249]،
وإذا قيل لهم إن العدو أكثر مالا كان ردهم "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ" [الأنفال]

وإذا حذروهم من مكرهم ردوا بقول الله عز وجل "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين" [آل عمران 54]، وإذا قيل لهم أنهم امنع حصونا قرأوا عليهم "وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا" [الحشر 2]

إنهم يسيرون بمعونة الله وينظرون بنور الله ويقاتلون بسيف الله ويرمون بقوه الله "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى" [الأنفال 17]

لقد انتصر المؤمنون - في بدر وغير بدر - مع قلة عددهم وضعف عتادهم وانهزم خصومهم مع كثرة عددهم وقوه عتادهم لأن خصومهم خرجوا بطرا وأشرا، عنادا وكفرا وإمعانا في الظلم والقتل والاستبداد... لا تمكين ولا استقرار ولا طمأنينة الا بعد الابتلاء والخوف والزلزلة...
قال عليه الصلاة والسلام: لقد أُخِفْتُ في الله ما لم يُخَفْ أَحدٌ، وأُوذِيت في الله ما لم يُؤذَ أحد، ولقد أتى عليَّ ثلاثون من يوم وليلة، ومالي ولبلال طعامٌ إِلا شيء يُواريه إِبطُ بلال..
و سئل الإمام الشافعي : "أندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء؟ فتبسم وقال: لن تمكن قبل أن تبتلى"، أي مستحيل وألفُ ألفِ مستحيل أن تنال عطاءً من الله من دون ابتلاء، تبتلى ثم تُمكن، الآية:
" أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ "
ومكر الاعداء لا ينتهي ولا يضعف لابد ان يقاوم..
" وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ ؟" إبراهيم
تصور إله عظيم يصف مكرهم بأنه تزول منه الجبال، هل تستطيع قوى الأرض مجتمعة أن تنقل جبل من مكانه ؟ فوق طاقة كل الدول، وصف الله مكر أعداء الدين بأنه تزول منه الجبال. كيف ؟
" وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ. " إبراهيم
لكن ما يجابه ذلك المكر ويقضي عليه. " وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً "
آل عمران
أسلحتهم، أقمارهم. ، أموالهم ، اعلامهم ، لاتفعل.شئ امام الصبر والتقوي
' وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً "
هل تصدقون أن خلاص المسلمين بكلمتين في هذه الآية: " وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً "
قديما صبروا وتحملوا واتقوا حتي انتصروا تباعا..
- الان - وفي غمرة الألم الساحق، والحزن القاتل، والهم المطبق وفي غفلة عن ماضي هذه الأمة المشرق ؛ ينبغي أن نهفوا الي صورة مشرقة من ماضيها، ليس طربا بل لتكون باعث أمل في النفوس، ودافعاً لعمل مثمر نستعيد به مجد أمتنا، وتألق حضارتنا...
هناك بالقرب من دمشق الجريحة الفريسة يرقد ضريح بطل جابَه أوربا بأكملها، وفتح القدس!!
يوم تم فتح مدينة القدس من قبل المسلمين، وبقيادة صلاح الدين، وتم تحريرها من أيدي الغزاة الطامعين ، بعد مايقارب قرن من الاحتلال المقيت ، ثم رفع الأذان، وتلاوة القرآن، وصفت العبادات، وأقيمت الصلوات، وأديمت الدعوات، وتجلت البركات، وانجلت الكربات وزال العبوس، وطابت النفوس، وفرح المؤمنون بنصر الله، نسأل الله أن يعيد هذه الأيام،
فإذا المسلمون، وفيهم صلاح الدين وجنده يجلسون على الأرض، لا تتفاوت مقاعدهم، ولا يمتاز أميرهم عن أحد منهم، قد خشعت جوارحهم، وسكنت حركاتهم، هؤلاء الذين كانوا فرساناً في أرض المعركة ؛ استحالوا رهباناً خشعاً، كأنّ على رؤوسهم الطير في حرم المسجد.
وصعد الخطيب ( محي الدين القرشي )، قاضي دمشق، المنبر، والقي خطبته، التي لو ألقيت على رمال البيداء لتحركت، وانقلبت فرساناً، ولو سمعتها الصخور الصم لانبثـقت فيها الحياة، لقد افتتحها بقوله تعالى:
" فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " الأنعام
ثم قال: " أيها الناس، أبشروا برضوان من الله تعالى الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا، لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد أن ابتذلتها أيدي المعتدين الغاصبين قريباً من مئة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع، ويذكر فيها اسمه من رجز الشرك والعدوان "
ثم قال محذراً:" إياكم عبادَ الله أن يستذلكم الشيطان، فيخيل إليكم أن هذا النصر كان بسيوفكم الحداد، وخيولكم الجياد، لا والله، وما النصر إلا من عند الله، فاحذروا عباد الله بعد أن شرفكم الله بهذا الفتح الجليل أن تقترفوا كبيرة من مناهيه، انصروا الله ينصركم، خذوا بحسم الداء، وقطع شأفة الأعداء ".
وهذا شاهد عيان من الفرنجة يقول:
" إن المسلمين لم يؤذوا أحداً، ولم ينهبوا مالاً، ولم يقتلوا مسالماً، ولا معاهَداً، وإنما من شاء منا خرج، وحمل معه ما شاء، وإنا بعنا المسلمين ما فضل من أمتعتنا، فاشتروها منا بأثمانها، وإننا نغدو ونروح آمنين مطمئنين، لم نرَ منهم إلا الخير والمروءة، فهم أهل حضارة وتمدن، وصدق، ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب "
بعد هذا الإنجاز الضخم ؛ لهذا البطل الذي يرقد في ضريح بالارض الملتهبة المسلوبة - الان - ، يجب أن نعتذر له، عذراً لك يا صلاح الدين، وألف عذر، أنت الذي طردت الفرنجة القدامى من بلاد الشام ومصر والعراق، وأنت الذي حررت دمشق والقدس من أيديهم، وقد قلت قولتك المشهورة:
" لن يرجعوا إليها مادمنا رجالاً "
عذراً لك يا صلاح الدين، لقد رجعوا.....
رجعوا عندما تصر الموالين للاعداء والكارهين لشريعة السماء...
ولا حول ولا قوة الا بالله... وحسبنا الله ونعم الوكيل...

[email protected]