سيف الدين عبد الفتاح :
كم من السجون تتحول إلى رمزية القهر والبطش والطغيان والقتل المباشر أو القتل البطيء، "باستيل" فرنسا و"غوانتانامو" الولايات المتحدة الأميركية و"عقرب" مصر و"السجن الحربي" عبد الناصر، و"العزولي العسكري" على طريق الإسماعيلية، وسجن بو سليم في ليبيا القذافي و"أبو غريب" العراق و"تازمامرت" في المغرب. واشتهرت دول بسجونها، مثل سجون سورية الأسد، وسجون الأرجنتين الديكتاتورية، وأفغانستان "قلعة جانجي"، وسجون الاحتلال الإسرائيلي التي تتصدر الممارسات البربرية، مؤشراً على عنصرية الاحتلال والكيان الصهيوني. لم تعد السجون مجرد مكان لمعاقبة المجرمين، أو المنحرفين الذين يخرقون القانون، لكنها صارت، في حقيقة أمرها، مكاناً أقرب ما تكون إلى معسكرات النازي. كانت السجون، ولا تزال، علامة على احتلال مباشر أو استبداد وطغيان فاجر، أو حالة امبراطوريةٍ، جمعت فيه الدولة الكبرى مخالفيها من كل جنس ولون، كلها تقوم بكل عمل ضد كل ألوان الحرية، وتمارس عملاً ممنهجاً ضد الإنسانية وحقوقها التأسيسية.
لطالما تم التعامل مع المؤسسة السجنية في بلادنا بعقلية الردع والعقاب، قصد الإصلاح، وهي معادلة أثبت التاريخ والجغرافيا فشلها الذريع، حيث تحولت السجون إلى مدرسةٍ لاحتراف الجريمة، وبيئة ملائمة لإنتاج الانحراف. هذه الوضعية جعلت من المنظومة السجنية تصبح عبئاً مضاعفاً. وفي بلادنا، تشكل وضعية السجون كابوساً مفزعاً، نظرا لما ينتج عنه من اكتظاظ كبير في الوحدات السجنية، بما يؤكد أنها تشكل، بالأساس، مراكز اعتقال وعزل، وأنها بعيدة كل البعد عن تأدية دورها "الردعي"، ولا معنى للحديث، هنا، عن دورها "الإصلاحي"، ناهيك عن أن تكون تلك السجون المكان الأفضل لكل نظام مستبد لتصفية الحسابات السياسية مع خصومه السياسيين، وفي إدارة سياساته في التخويف والترويع، وفي التطبيع وتكريس سياسات القطيع.
في منظومة الانقلاب فى مصر المحبوسة، لا المحروسة، ودولة السجون، وفي مقدمتها سجن العقرب الذي امتلك شهرة ورمزية واسعة، علامة على انتهاك كل صنوف الحقوق التأسيسية والإنسانية، اتبع الانقلاب، في استراتيجياته وكثير من سياساته، وبعد أن ضاقت السجون بالمعتقلين فيها واكتظت، وقد صارت استراتيجية ثابتة لبناء سجون جديدة، وصل عددها قرابة التسعة مضافة، حتى يزيد من طاقتها الاستيعابية لعدد من المعتقلين يتزايد. وضمن تكلفة سياسات الظلم الممنهج التي تتصاعد والمعتمدة من منظومة استبداد عاتية فاجرة. ولنسأل سؤالاً مباشراً، نريد له إجابةً: كم عدد المليارات التى تم توجيهها لبناء سجون في الموازنة الحالية أو الموازنة السابقة. وفي المقابل، ما قيمة المبالغ الأخرى التى تم توجيهها إلى الصحة والتعليم وغيرها، وأيضاً ما قيمة المبالغ التى تم توفيرها من تخفيض الدعم وأوجه إنفاقها؟ فليس من المعقول أن نخفض الدعم لصالح بناء السجون.
وهكذا، يبدّد المنقلب المليارات في بناء السجون، ويحرم مصر من طاقةٍ شبابيةٍ حقيقيةٍ من نخبة شباب مصر الذين ثاروا ضد حكم مبارك، ثم حكم العسكر، سواء كانوا إخواناً أو اشتراكيين ثوريين أو حركة 6 أبريل ونشطاء من المستقلين غير المصنفين، ثاروا فقط من أجل الحرية والعدالة والكرامة والعيش الكريم.
نوجه، في مختتم هذا المقال، رسالة إلى عموم الإنسانية إلى كل من يواجه رمزية سجن العقرب
"على الجميع المشتركين في جنس الإنسانية أن ينهضوا لمواجهة زبانية الاستبداد"
وبطشه، سواء تمثل في هؤلاء الذين يحلون فيه ظلماً وعدواناً، لكل من تجرأ واتخذ من المواقف التي تحرك كل صنوف الاحتجاج، وتصرخ في وجه الطغاة، وبأعلى صوت تصدع، بقوله "لا"، تعبيراً عن حريتها، فيقوم الزبانية بحرمانه المباشر من أي حقوق أساسية، ويمارسون مسالك الترويع والتعذيب والإهانة والمهانة. لا يتوقف العقاب عنده، بل يمتد إلى ذويه ضمن حالة ترويعٍ كبرى، ترى في هذه الممارسات عملاً ضاغطاً يمارس على المسجونين وأهاليهم، على حد سواء، ليحولوا مصر كلها إلى مصر المحبوسة في سجن كبير، حيث مسجونون خلف الأسوار ومسجونون خارج الأسوار، يروعون الجميع في معركة الترويع والتركيع.
نشرت الصفحة الرسمية لرابطة أسر معتقلي العقرب رسالة عاجلة من السجن، يقول فيها معتقلون "نحن الأموات الأحياء، كل الناس تموت مرة واحدة، ونحن نتجرّع مرارة الموت كل يوم، مرات ومرات، إن كنتم تظنون أننا نبالغ، فاسألوا من يقابلوننا في لحظات بعثنا من مقبرة العقرب، حين نخرج إلى جلسات المحاكم".
لا يتم التنكيل بالمعتقلين في سجن العقرب وقتلهم بالبطيء وفقط، بل يتم أيضاً تهديدهم باغتصاب ذويهم وأهليهم أمام أعينهم في أثناء الزيارة شبه الدورية، وهي الزيارة التي توقفت تماما بعد ذلك، ضمن خطة التنكيل والمهانة، حال تفوه أحدٌ منهم بأي كلمة عن الانتهاكات التي يتعرّضون لها لأي من الحقوقيين. هذا فضلا عما تعانيه الأسر في الزيارات السابقة الذي وثقته المنظمات الحقوقية سابقاً، من منع إدخال الطعام والدواء والمسلزمات الخاصة، والطوابير الطويلة والإهانات المتكررة والتفتيش الشبيه بالتحرش، والحرمان من التواصل مع المعتقل وأهله، حيث يحول بينهم لوح زجاجي، وتكون الزيارة من خلال سماعة هاتف مراقبة، فضلاً عن منع إدارة السجن زيارة عدد كبير من أهالي المعتقلين مرات عديدة، من دون سبب.
وفي إطار الحملة الدولية بعدة لغات، لمخاطبة شعوب العالم الباحثة عن الحريات وحقوق الإنسان لإغلاق "العقرب"، ذكرت هيئة تنسيقية لها أن "عدد القتلى داخل العقرب بلغ 15 شخصاً، خلال العام الماضي، بسبب سوء حالة السجن، وافتقاده أبسط المعايير الدولية، إضافة إلى الإهمال الطبي وسوء التغذية"، ووصفت التنسيقية ما يحدث في السجن، بأنه "لا يقل بشاعةً عما حدث في غوانتانامو في أميركا، وأبو غريب في العراق، وباجرام في أفغانستان". وأوضحت أن "الحملة تأتي بعد انتهاكات ممنهجة تقوم بها السلطات المصرية، مع المعتقلين في سجن العقرب وأسرهم، وزيادة حالات الوفاة في العامين الماضيين فيه، حتى وصلت إلى 28، بعضهم توفي جراء الإصابة بالسرطان، مع الارتفاع في معدل الحالات المرضية، ومع مخالفة السجن الشروط الدولية، من حيث مساحة الزنازين، وأوقات التريّض للمساجين، والخروج من العنابر، والرعاية الصحية للمرضي منهم، كان لزاماً علينا أمام مسؤوليتنا الأخلاقية، كمنظمة حقوقية تتابع عن كثب أحوال المعتقلين، أن نطالب السلطات المصرية، بإغلاق سجن طره شديد الحراسة، المسمى بالعقرب".
حينما ينتفض هؤلاء جميعاً، سجناء وراء القضبان وسجناء خارجها، فإن على الجميع المشتركين في جنس الانسانية أن ينهضوا لمواجهة زبانية الاستبداد، في محاولتهم لقتل كل معاني الانسانية، كياناً وحقوقاً، وما أطلق من حملة حقوقية مصرية لدعوة السلطات المصرية، إلى إغلاق سجن العقرب (جنوبي القاهرة)، جرّاء ما سمتها "الانتهاكات الصارخة التي يتعرّض لها المحتجزون بداخله"، وحينما تطالب التنسيقية بإغلاق هذا السجن العاتي من جرّاء ما يحدث داخله باعتباره "جريمة في حق الإنسانية، وانتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة في التعامل مع المسجونين"، "رسالة لكل الإنسانية، أغلقوا سجن العقرب".
يقول شاعر "كفي عن سباتك، أيتها البشرية/ واستيقظي قبل فوات الأوان/ آخر المطاف لا يستر عفنك غير الأكفان"، فهل وصلت الرسالة، أم لم تجد لها عنواناً؟ عنوانها معروف ،عنوانها الإنسان، عنوانها أن تكون ضد الطغيان. هذا هو معنى الإنسان.