لا يمكن التدليل على تلاعب جيش الانقلاب بالأرقام بل تزييفها واختلاق روايات وأرقام مفبركة حول الوضع في سيناء بأكثر من هذه القصة الطريفة والمؤلمة في ذات الوقت، حكاها الإعلامي يسري فودة في مقاله المنشور على موقع “دويتش فيلا” الألماني في يوليو 2016م، ففي إحدى حلقات برنامجه على الإذاعة الألمانية ذكر أرقام ضحايا الحرب على «الإرهاب المزعوم» في سيناء خلال الستة شهور التالية لانقلاب الجيش في 30 يونيو2013م وهي الفترة من يوليو حتى ديسمبر 2013م. والأرقام التي ذكرها هي: (“100” قتيل بصفوف الجيش والشرطة و50 قتيلا و450 مصابا في صفوف المدنيين، و200 قتيل  و200 مصاب في صفوف المسلحين الذين وصفهم فودة بالجماعات التكفيرية اتساقا مع تصورات النظام، واعتقال 800 من المسلحين). وبدأ في مناقشة هذه الأرقام مع ضيوف حلقته اللواء أحمد رجائي عطية مؤسس الفرقة 777 لمكافحة الإرهاب، والدكتور كمال حبيب، المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية، وسعيد أعتيق، الناشط السياسي السيناوي.

يقول فودة: «حتى انتهت الفقرة الأولى وخرجنا إلى فاصل، فهرول إليّ أحد زملائي وعلى وجهه ابتسامة مندهشة.

* أستاذ! الشؤون المعنوية (للقوات المسلحة) اتصلوا وبيسألوني إحنا جبنا الأرقام دي منين؟

– وقلتلهم إيه؟

* قلتلهم زي ما عملنا بالظبط .. وما عمله زميلي مع بقية الزملاء بالضبط وببساطة أنهم جمعوا، بتكليف مني، كل البيانات الرسمية الصادرة عن المتحدث الرسمي للقوات المسلحة خلال الفترة المعنية، من أول يوليو حتى اليوم (23 ديسمبر 2013)، بيانًا بيانًا. قاموا بدراستها حرفًا حرفًا وباستخلاص المعلومات والإحصاءات معلومةً معلومة ورقمًا رقمًا، ثم قاموا بمهمة حسابية بسيطة في متناول تلميذ الصف الرابع الابتدائي جمعًا وطرحًا وضربًا وقسمة».

ويضيف فودة «لدى هذه النقطة ظننت أن الأمر انتهى وأنه لم يكن ليتعدى مجرد شغف ضابط صغير عندما رأى أرقامًا تبدو كبيرة و ربما فاته من أين استقيناها. لكنّ ما علمته أثناء الفاصل الثاني لم يكن ليقبله أي عقل ولا أي منطق. قال لي زملائي إن اتصالًا هاتفيًا آخر من إدارة الشؤون المعنوية كان غاضبًا وأن ضابطًا كبيرًا قال لهم إنه لم يكن ينبغي عليهم أن يقوموا بجمع أرقام الضحايا حتى لو كانت واردة في بيانات رسمية متفرقة، وأن الوزارة كلها “مقلوبة».

ويكمل فودة «كتمت في نفسي بصعوبة لفظاً مصرياً شعبياً يتكون من ثلاثة أحرف وأنا أجهد في تربية مجموعة منتقاة من الصحفيين الشباب المخلصين المهذبين. “ولا يهمّكم .. أنتم صح و هو غلط .. ولو حد اتصل بيكم تاني حوّلوه عليّ».

ويعلق فودة على هذا الموقف أن المنطق انتحر والذي جعله عنوانا لمقاله، مضيفا أن المنطق الذي انتحر عندئذ قرر لاحقاً، بعد ذلك بأكثر من عام ونصف العام، أن يعود إلى الحياة مرة ثانية لمدة دقيقة واحدة قبل أن ينتحر مرة أخرى عندما كُشف النقاب، في بداية شهر يوليو 2015، عن مشروع قانون لمكافحة الإرهاب.

في ظل مشروع القانون هذا “يُعاقَب بالحبس الذي لا تقل مدته عن سنتين كل من تعمد نشر أخبار أو بيانات غير حقيقية عن أي عمليات إرهابية بما يخالف البيانات الرسمية الصادرة عن الجهات المعنية”. وهو ما يصعب معه مقاومة طرح هذا السؤال: ما هي إذاً عقوبة ضابط يوبخ صحفيّاً التزم حرفيّاً بنصوص “البيانات الرسمية الصادرة عن الجهات المعنية”؟ وماذا عن نشر أخبار أو بيانات حقيقية تخالف البيانات الصادرة عن الجهات المعنية؟»!([1])

ومنذ سن قانون الإرهاب في 2015م، فرض النظام تعتيما كبيرا على ما يجري في سيناء؛ توقفت الأخبار وتوقفت التقارير الجادة والتحقيقات الاستقصائية والمقالات والتحليلات الرصينة ولكن الفبركة والتزييف والأكاذيب لم تتوقف.

وللتدليل أيضا على احتراف الجيش عملية الفبركة والتزييف ما ذكره المتحدث العسكري عن حصاد عملية “حق الشهيد” التي انطلقت وانتهت في 2015م عندما أعلن عن قتل 536 واعتقال 596 أخرين من “التكفيريين والمطلوبين” خلال 11 يوما من العمليات التي نفذها الجيش في سيناء من يوم 7 سبتمبر 2015م حتى 29 سبتمبر. رغم أن تقديرات النظام والمسئولين فيه عن عدد المسلحين كانت تدور بين الــ”500 والألف على أقصى تقدير!

إضافة إلى ذلك،  بجمع الأرقام المنشورة في البيانات العسكرية الـ 31  الأولى من العملية الشاملة على مدار عام كامل من بدئها (خلال الفترة ما بين 9 فبراير 2018، وحتى 22 يناير2019م)، يمكن رصد قتل الجيش 520 ممن وصفهم بأنهم “إرهابيين”، واعتقال 7970، وصف 162 منهم بـ “الإرهابيين”، وأفرج عن أكثر من 1447 شخصًا ولا يعرف مصير الباقي، بحسب تأكيد المتحدث العسكري.

يدلل على الفبركة والتزييف كذلك، أن المتحدث العسكري ذكر في مداخلة مع قناة “العربية” السعودية بعد البيان رقم 28 من العملية الشاملة أنه تم قتل 450 مسلحا برغم أن المتحدث العسكري نفسه أعلن على صفحته على “فيسبوك” أنه تم قتل 320 فقط ما يؤكد عدم دقة بياناته.

وسبق لرئيس المخابرات الحربية أن أعلن في فبراير 2017م  أي قبل انطلاق العملية الشاملة بعام كامل قتل 500 من المسلحين في سيناء، وقدَّر عددهم الإجمالي ما بين 500 وألف، ما يعني القضاء عليهم، فكيف يستمرون في مهاجمة الجيش؟ وهل يعني ذلك أن من يجري قتلهم هم أبرياء لا إرهابيين؟ أم أن المتحدث العسكري يقدم بيانات ومعلومات غير دقيقة للشعب؟!([2])

سنتان دون حسم

بخلاف الفبركة والتزييف والأكاذيب في بيانات الجيش، فقد مضى على تعهد زعيم الانقلاب في نوفمبر 2017م بالقضاء على «الإرهاب» في سيناء في غضون ثلاثة أشهر فقط،  أكثر من سنتين عندما كلف اللواء محمود فريد، رئيس أركان الجيش وقتها، وزير الداخلية وقتها اللواء مجدي عبدالغفار، باستخدام “القوة الغاشمة” في مواجهة المتطرفين بعد جريمة مسجد الروضة التي راح ضحيتها أكثر من 300 مصل خلال صلاة الجمعة، وهي الجريمة التي تدور حولها شبهات كبرى حول تورط الكيان الصهيوني وأجنحة داخل نظام العسكر في ارتكابها فلم تعلن حتى اليوم أي جهة عن تبنيها لهذه الجريمة المروعة؛ وبعد انتهاء المدة  المحددة؛ لم يعلن المنقلب القضاء على الإرهاب كما تعهد بل أطلق في 9 فبراير2018م «العملية الشاملة» التي توصف بكبرى العمليات المسلحة ضد المسلحين في سيناء كلها؛ والتي امتدت حتى اليوم دون أن تحرز أي تقدم ملموس فضلا عن النصر الحاسم الذي وعد به المنقلب، وكما روجت وسائل إعلام النظام مرارا وتكرارا منذ انطلاقها.

وخلال الأسابيع الماضية مرت الذكرى الثانية لانطلاق «العملية الشاملة» وسط تصاعد هجمات المسلحين وسقوط المزيد من الضحايا من أفراد الجيش والشرطة وكذلك من المدنيين المستهدفين من جانب النظام والمسلحين على حد سواء.

أولا: في يوم 10 فبراير وهو ذكرى انطلاق العملية الشاملة شن مسلحو تنظيم “ولاية سيناء” هجمات متزامنة على ثلاثة كمائن تابعة للجيش ضمن سلسلة كمائن «زلزال» الواقعة في محيط قرية الجورة جنوبي مدينة الشيخ زويد؛ وهي الهجمات التي استهدفت التمويه؛ لأن الهجوم الأكبر والأساسي وقع على ارتكاز “زلزال 15” والذي نجح المسلحون في اقتحامه والفتك بقوة التأمين بين قتيل وجريح؛ حيث قتل سبعة بينهم ضابطان وأصيب سبعة آخرون كلهم جنود. ([3])

ثانيا: في 11 فبراير، مقتل قائد اللواء 134 مشاة ميكانيكي التابع للفرقة 18 بالجيش الثاني ومرافقه، في تفجير استهدف سيارته على الطريق الدولي شرق مدينة بئر العبد شمال سيناء. وهو ما ردت عليه وزارة الدفاع بحكومة الانقلاب ببيان قالت فيه إنها قامت بتصفية “17” وصفتهم بالإرهابيين في مدينة العريش أثناء مداهمة إحدى البؤر، وأنها تم إحباط مخطط إرهابي كبير.

ثالثا: مطلع فبراير2020م، استهدف مسلحو “ولاية سيناء” أحد أنابيب خط الغاز في قرية التلول شرق مدينة بئر العبد شمال سيناء بعدة عبوات ناسفة. وهو التفجير الذي يأتي بعد انقطاع حوادث التفجير المتتالية التي بدأت عام 2011 وصلت لقرابة 30 تفجيرًا، كان آخرها في يناير 2016.

رابعا: قبل الهجوم على ارتكازات «زلزال»، بأيام قليلة هاجم مسلحو “ولاية سيناء” رتلا عسكريا للجيش عبارة عن مجنزرة ودبابات وعربات نقل جنود وسيارات نقل ثقيل تحمل مواد إعاشة ومعدات تحصين الارتكازات العسكرية أثناء محاولتهم إقامة ارتكاز عسكري (رقم 16) على مشارف قرية الجورة؛ ما أسفر مقتل ضابط وأربعة جنود وإصابة ثلاثة آخرين. وتعرض الرتل العسكري.

لم تقتصر الاشتباكات والقتل على مدينة الشيخ زويد، ولكن مدينة العريش العاصمة كان لها نصيبًا أيضًا، حيث قتل ضابط احتياط برتبة نقيب تابع لسلاح المهندسين وثلاثة جنود، أثناء محاولة تفكيك عبوة ناسفة جنوب شرق مدينة العريش، خلال فبراير أيضا.

تمكن «ولاية سيناء» من اختراق بعض المناطق التي لم يكن قادرًا على الوصول إليها من قبل، وقامت عناصره بخطف شباب ورجال وسرقة سيارات، حيث اُختطف شابان وأُصيب ثالث في اقتحام عشرات المسلحين لقرية أبو العراج، في أكتوبر 2019.

وفي ديسمبر اختطف رجل وأصيب ثلاثة رجال في قرية قبر عُمير من قِبل مسلحين، وبعد أيام نشر «ولاية سيناء» مقطعًا مصورًا يتضمن اعترافات للمختَطَف ومن ثم قتله، تضمنت الاعترافات أنه أبلغ عن عمليات تسلل بين الكمائن لأحد ضباط المخابرات، وفي أواخر يناير2020م هاجم عشرات المسلحين منزل أحد المتعاونين مع القوات المسلحة في قرية الجورة وأحرقوه. وهي الهجمات التي تعكس القدرة المخابراتية للتنظيم فقد كان لدى المسلحين في الحوادث السابقة معلومات محددة وأسماء ويعرفون منازل الأشخاص المطلوبين لديهم، ما يشير إلى أنهم تمكنوا في الفترة الأخيرة من تشكيل شبكات من المتعاونين معهم، وهو الأمر الذي كان قد اختفى منذ فترة طويلة.([4])

وتأتي هذه التحركات رغم إقامة الجيش سلاسل من الكمائن والارتكازات العسكرية حول أماكن نشاط تنظيم «ولاية سيناء» وتحركاته؛ مثل «بركان»، بين منطقتي «الخروبة» و«كرم القواديس»، و«زلزال» في قرية الجورة ومحيطها، و«الثعالب» التابعة للجيش الثاني على امتداد الطريق الدولي «العريش/العوجة»، وكمائن «فَهد» التابعة للجيش الثالث، والممتدة من منطقة «أم شيحان» وحتى معبر العوجة البري، وسلسلة كمائن «غزال» على الطريق الدولي «العريش/رفح».

هذه الهجمات المتصاعدة تعيد إلى الأذهان الذكرى الأول لانطلاق «العملية الشاملة» حيث تزامنت مع مشاركة زعيم الانقلاب وقتها في مؤتمر ميونخ للأمن بالمانيا؛ في فبراير 2019م من أجل تسويق قدرات النظام الأمنية باعتباره “الدرع الواقي للغرب ضد الإرهاب” حيث شن  المسلحون هجوما موسعا حيث نجحوا في إبادة كمين عسكري بالكامل وقتل 15 ضابطا ومجندا وجرح 5 آخرون.

أين تاسع أقوى جيش في العالم؟

هذه الهجمات في فبراير 2020م، تزامنت مع حالة البروباجندا التي شنتها وسائل إعلام العسكرحول تقدم تصنيف الجيش المصري إلى المركز التاسع عالميا في تصنيف أقوى جيوش العالم -وفق موقع غلوبال فاير باور- لكن الفشل المستمر في سيناء يعصف بكل هذه التصنيفات ويطرح الكثير من الأسئلة والألغاز حول عدم قدرة الجيش المصنف التاسع عالميا في القضاء على عدة مئات من المسلحين وفق تقديرات الأجهزة الأمنية التابعة للنظام  وخبراء عسكريين؛ فلماذا يستمر الفشل؟ ولماذا لم تحقق الاستراتيجية القائمة على استخدام «القوة الغاشمة» أهدافها؟ وكيف تمكن عدة مئات من المسلحين في إلحاق كل هذه الخسائر بأقوى تاسع جيش عالميا؟ ولماذا فشلت العملية الشاملة وقبلها 6 عمليات عسكرية موسعة في القضاء على التمرد المسلح في سيناء؟

ووفقا للمعايير العسكرية المجردة؛ فإن تنظيم “ولاية سيناء” والجهة التي تقف وراءه؛ تمكنت بالفعل من جر الجيش المصري إلى عملية استنزاف واسعة لقدراته خلال السنوات الماضية، حيث خسر الجيش كثيرا من قادته وضباطه وعناصره ومعداته؛ ما أفقده السمعة والمكانة؛ وجاءت الانتهاكات الواسعة التي مارستها القوات النظامية بحق الأهالي وعمليات التهجير القسري  لتمنح المسلحين حاضنة شعبية لا يستهان بها فما فعلته قوات السيسي بأهالي سيناء خلال السنوات الماضية يفوق بآلاف المرات ما فعلته قوات الاحتلال الإسرائيلي بهم خلال 15 سنة من الاحتلال، في الفترة ما بين هزيمة 1967م واستعادة جزء منها في حرب 1973م والباقي في المفاوضات التالية حتى 25 أبريل  سنة 1982م. حيث انسحبت قوات الاحتلال من سيناء باستثناء طابا  وبالطبع  أم الرشراش التي تجاهلها نظام العسكر حتى اليوم.

الأكثر خطورة في هذه التطورات أن تنظيم «ولاية سيناء» عندما بث مقطع فيديو مصور لإعدام “عثمان موسى” والذي وصف بأنه موظف حكومي سابق كان مديرا لإدارة التموين ببئر العبد وكان يتخابر لحساب الجيش ويرصد تحركات التنظيم وينقلها لضابط بالمخابرات من خلال تواجده بمزرعته بمنطقة “جعل” جنوب بئر العبد؛ هي الحالة الأولى التي يعلن التنظيم عنها لهذا السبب، مما يشير إلى تطور كبير أكثر دموية وخطورة في فكر التنظيم تجاه المدنيين في شمال سيناء، مما يشير أيضًا إلى وضع الموظفين الحكوميين المسؤولين عن الأمور اللوجستية داخل المحافظة، خاصة المياه والكهرباء والسلع التموينية، فقد باتوا في مرمى الخطف والقتل.

إضافة إلى ذلك أن الإعلان عن مقتل موسى، ابن مدينة بئرالعبد، جاء بعد أيام من نشر «ولاية سيناء» مقطع فيديو لعملية قتل مُختطف آخر في مدينة الشيخ زويد يدعى سليمان مطاوع، والذي اختطف من قرية «قبر عمير» جنوبي مدينة الشيخ زويد أواخر ديسمبر الماضي، وأثناء حادثة الاختطاف وقع شجار بين المختطفين وبين أهل المختطف أسفر عن إصابة ثلاثة مدنيين من أهل المُختَطَف، أحدهم وصفت حالته بالخطرة بعد ما أصيب بطلقات نارية. وبث التنظيم مقطع اعترافه بالتخابر لحساب الجيش ورصد تحركات نساء وأطفال بين الكمائن. ويعد إعلان «ولاية سيناء» عن قتل موسى ومطاوع، هو الثالث من نوعه الذي يُعلن التنظيم مسؤوليته عنه خلال شهر يناير2020م، حيث كان التنظيم قد أعلن مسؤوليته عن قتل رجل ذبحًا وصبي رميًا بالرصاص مطلع الشهر ذاته جنوب مدينة بئر العبد.

وأمام هذه الهجمات المتصاعدة من جانب المسلحين في سيناء، حاول النظام التغطية على هذه الهزائم المدوية والمتكررة بإجراءين:

الأول: إحداث حالة من الصخب الدعائي وذلك عبر تنظيم ما يسمى بمؤتمر قبائل سيناء في استاد القاهرة في 30 يناير2020م، وهو المؤتمر الذي تزامن مع النشاط المكثف للتنظيم وبثه مقاطع الإعدام للمتخابرين مع الجيش.([5])

الثاني: قيام رئيس الأركان الفريق محمد فريد بزيارة مفاجئة إلى مدينة العريش في الأسبوع الأول من فبراير 2020م وهو الإجراء الذي استهدف رفع الروح المعنوية للضباط والجنود، وهي الزيارة التي أعلن عنها المتحدث الرسمي للقوات المسلحة في وقت لاحق للزيارة وبعد الانتهاء منها؛ في دلالة غير خافية على أن الجيش خشي على قائده من هجمات المسلحين كما جرى سابقا مع وزيري الدفاع والداخلية خلال زيارة مشابهة قبل سنتين. وتضمنت الزيارة بحسب بيان المتحدث العسكري، تفقد عدد من الأكمنة والارتكازات الأمنية، وسير العمليات العسكرية وإجراءات التأمين من مركز العمليات الدائم بالعريش، بالإضافة إلى الاستماع إلى آراء عدد من المقاتلين واستفساراتهم في مختلف المجالات ومطالبتهم بضرورة الحفاظ على أعلى درجات اليقظة والجاهزية لصد كل التهديدات والمواقف العدائية المحتملة.

لماذا فشل الجيش؟

يمكن عزو أسباب الفشل في حسم الصراع والقضاء على التمرد المسلح في سيناء، رغم قلة عدد المسلحين إلى عدة أسباب وتفسيرات:

أولها:  الاعتماد كليا على الحل العسكري و”القوة الغاشمة” مع التهميش المستمر والمتواصل لسيناء وأهلها منذ اتفاق كامب ديفيد المشئوم سنة 1979م، إلى جانب الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها قوات العسكربحق الأهالي من قتل واعتقال وتدمير المنازل والمزارع والتهجير القسري لعشرات الآلاف ما أوجد حاضنة شعبية كبيرة للمسلحين الذين منحتهم جرائم المنقلب وميليشياته أعدادا إضافية من الغاضبين والمتمردين الذين يريدون الثأر والانتقام من الجيش الشرطة ردا على هذه الجرائم الوحشية بحقهم وبحق نسائهم وأطفالهم وأموالهم. وبذلك بات المسلحون فريقين: الأول هم المؤمنون بأفكار تنظيم “داعش” والذين يمارسون العمليات المسلحة بناء على أفكار ومعتقدات يؤمنون بها. والفريق الثاني، هم الغاضبون الثائرون من البدو والأهالي ضد قوات العسكرالتي قتلت شبابهم وأطفالهم وسبت نساءهم ودمرت حياتهم بوحشية مفرطة انعدمت فيها أي لمحة من إنسانية أو أخلاق.

وزاد من حجم الغضب الإفلات المستمر للضباط المتورطين في جرائم ضد أهالي سيناء من أي عقاب أو حساب من جانب النظام الذي يبدو من توجهاته وتجاهله للجرائم ضد الأهالي أنه يعزز هذه الانتهاكات ويدعمها لأهداف خفية وغير معلنة.([6])

السبب الثاني: هو تراجع الكفاءة القتالية للجيش المصري رغم تقدم ترتيبه عالميا إلى التاسع بين أقوى الجيوش في آخر تصنيف، فبراير 2020م. فالاهتمام الأكبر لقادة الجيش هو احتكار السلطة السياسية والبحث عن السلطة والنفوذ والمناصب الحساسة في النظام؛ إضافة إلى مشروعات البيزنس في قطاع المعمار عبر شركات الجيش التي احتكرت كل شيء في مصر، بخلاف السمسرة الواسعة في صفقات السلاح وجمع الإتاوات والجباية من الطرق الكبرى في البلاد التي فرض الجيش هيمنته عليها وفرض على المارين فيها رسوما كبيرة تدر عليه  مليارات الجنيهات سنويا. وعمليا لا يواجه  مقاتلو سيناء المحترفون على حروب العصابات سوى مجموعات من صغار الضباط والجنود غير المدربين على مثل هذه النوعية من الحروب غير النظامية التي تقوم على الكر والفر والتخفي؛ فيشنون الغارات الخاطفة ويختفون في الأحراش كالأشباح؛ فإذا جاءت الطائرات والدبابات والجنود لم تجد شيئا. فانشغال الجيش عموما بالبيزنس والمشروعات الاستثمارية أبعده عن دوره الحقيقي في حماية الحدود؛ وما الفشل في حسم هذا التمرد الذي يمتد إلى سنوات رغم قلة إمكانات المسلحين إلا انعكاس لحالة التردي والتدهور الحاد في القدرات القتالية للجيش وتراجع الكفاءة القتالية لعناصره.

وتذهب تفسيرات رصينة إلى أن صناعة  تنظيم مسلح على غرار “داعش” أو “ولاية سيناء”  أو استثمار وجوده هو في حد ذاته حاجة ضرورية للنظم المستبدة، لأسباب عديدة، أهمها أن هذه النظم تسوق نفسها أمام الأمريكان والغرب باعتبارها رأس حربة ضد التنظيم الذي يخشاه الغرب كثيرا، وثانيا تكتسب هذه النظم بوجوده أو صناعته وتضخيمه شرعية مفقودة، وثالثا، تخلط به هذه النظم الأوراق بين التنظيمات المسلحة “داعش والقاعدة” والحركات الإسلامية المعتدلة المؤمنة بالحريات والانتخابات والتداول السلمي للسلطة مثل جماعة الإخوان المسلمين وحماس والجماعة الإسلامية وغيرها، كما توظف هذه النظم وجود مثل هذه التنظيمات الدموية (داعش/ ولاية سيناء) لإسكات معارضيها بحجة قدسية الحرب على الإرهاب وممارسة انتهاكات صارخة ومصادرة الحريات وتكريس الاستبداد بهذه الحجة الملفقة والشماعة الجاهزة.  كما يحقق نظام 30 يونيو من استمرار الحرب على الإرهاب خلال المرحلة الراهنة ترميما لشعبية الجنرال السيسي التي تآكلت بفعل السياسات الخاطئة والفشل المتواصل في كل الملفات السياسة والاقتصادية [7]، كما تمنح الجنرال ذريعة تمكنه من فرض هيمنته على المشهد السياسي والإعلامي وإسكات أصوات منتقديه ومعارضيه بحجة التفرغ للحرب على الإرهاب. ويمثل استمرار العمليات كذلك غطاء ممتازا لفشل العملية السياسية وسحق كل من يفكر في منافسة الجنرال كما جرى مع الفريق شفيق وسامي عنان وغيرهم قبل مسرحية الرئاسة 2018م. معنى هذا أن الحرب ستظل مفتوحة لتؤدي دورها السياسي المطلوب وهو القضاء على الحياة السياسية”، فأن تقضي على الإرهاب يعني أن تبث الروح في الحياة السياسية وهي خطر داهم على النظام الفاشي، وعندما يستمر ويعلو صوت المعركة ضد الإرهاب تستطيع إسكات كل الأصوات والزج بأصحابها خلف القضبان”.

ويذهب آخرون إلى اتهام سلطات نظام 30 يونيو العسكر الانقلابي بافتعال معركة التطرف الديني والإرهاب باسم الدين، مؤكدين أن «وراء هذه الحرب المفتعلة «مافيا» تسترزق من ورائها ولا تريد لها أن تتوقف أبدا بل سيقاومون حتى النهاية من أجل سبوبة الاسترزاق».[8]

ويذهب آخرون إلى أن هذه العمليات المسلحة ضد الجيش والشرطة خلال شهر فبراير2020م، ما هي إلا صدى من أصداء «صفقة القرن» الأمريكية والتي تقف وراءها «إسرائيل» متسترة بلافتة تنظيم “ولاية سيناء”، وأنها  تأتي في إطار مخططات «الوطن البديل»  حيث يرى أصحاب هذا الرأي أن ما يجري في سيناء عموما منذ اتفاق كامب ديفيد ما هو إلا تمهيد لتوطين الفلسطينيين في غزة وشمال سيناء مع ضم المناطق ذات الكثافة السكانية في الضفة الغربية المحتلة للأردن لتبقى القدس وغور الأردن ومناطق المستوطنات تابعة للكيان الصهيوني؛ في إطار التصورات النهائية لتصفية  القضية الفلسطينية. ويبرهن أصحاب هذا الرأي على صحة تفسيرهم بأن المشروعات التي تضمنتها “صفقة القرن” الخاصة بغزة ستقام في سيناء وليس غزة، وهو ربط ليس عشوائيا بقدر ما يمهد لعلاقة أبدية بين غزة وسيناء وفق  مخططات “الوطن البديل” خصوصا وأن الذين صاغوا الصفقة والمتواطئين معهم يدركون حجم الرفض الشعبي الواسع في مصر وحتى في فلسطين لأي تصورات حول توطين الفلسطينيين في غير فلسطين وحق العودة إلى بيوتهم التي أخرجوا منهم بغير حق.

ويدلل أصحاب هذا الرأي على صحة تفسيرهم بأن حملات الجيش على سيناء لم تسفر عن شيء سوى تدمير سيناء وتهجير أهلها وصاروا أعداء  للدولة ولو عرض عليهم اليوم استفتاء من أجل الانفصال عن مصر وحقهم في تقرير المصير مع قطاع غزة  لوافقوا على الفور ما داموا سوف يتخلصون من ظلم نظام العسكر وإجرامه وانتهاكاته التي لا تتوقف ولا يسلم منها أحد في سيناء.

خلاصة الأمر: أن تزامن هذه العمليات المسلحة ضد الجيش مع الذكرى الثانية لانطلاق العملية الشاملة رسالة واضحة الدلالة تؤكد أن تنظيم “ولاية سيناء” تمكن من امتصاص ضربات الجيش وحملاته السبعة وكذلك احتواء الحملة العسكرية ضده منذ سنتين واستطاع إعادة ترتيب أوراقه من جديد وشرع في شن هجمات خاطفة وسريعة ومؤلمة انطلقت من أماكن ومناطق تم إخلاؤها من السكان تماما؛ الأمر الذي يعني أن الحديث عن حسم الحرب في سيناء هو من قبيل الاستخفاف وعدم الواقعية. فهجمات التنظيم المتزامنة على ارتكازات “زلزال” تمت بعربات دفع رباعي وأسلحة ثقيلة محمولة على عربات، ما يعني تمتع عناصره وتحركاته بهامش واسع من الحرية والمناورة ما يعني أنه مسنود إما من الموساد أو من أجنحة داخل النظام. الأمر الآخر، أن الإحصاءات التي أعلنها الجيش في بياناته منذ بدء العملية الشاملة في فبراير 2018م تقول إنه تم قتل نحو 682 مواطنا بدعوى أنهم إرهابيون، بينما تشكك المنظمات الحقوقية في هذا التوصيف لأسباب تعود إلى ثبوت اعتقال البعض ثم الإعلان عن مقتلهم في اشتباكات مزعومة بسيناء. وشهد العامان أيضا اعتقال 7749 مواطناً من أهالي سيناء.

فالإرهاب المحتمل الذي طالب المنقلب بتفويضه لمواجهته بات غولا يقف أمامه الجيش المصري المصنف التاسع عالميا عاجزا وهشا وضعيفا للغاية في كفاءته وقدراته القتالية أو أن المنقلب يتآمر على مصر وجيشها طمعا في رضا الأمريكان والصهاينة لتمرير صفقة القرن المزعومة.

تم الانتهاء منه في السبت 29 فبراير 2020م

 [1] يسري فوده: “انتحار المنطق”.. فصل لم يُنشر في كتاب “آخر كلام”/ الإذاعة الألمانية دويتش فيلا 23 يوليو 2016

[2] يوسف أحمد/عامان على “العملية الشاملة”.. لماذا لم ينته “الإرهاب” في سيناء؟/ مجلة المجتمع 11 فبراير 2020

[3] الهجوم على كمائن «زلزال».. محاولة جديدة من «ولاية سيناء» لفك الحصار/ مدى مصر 11 فبراير 2020

[4] الهجوم على كمائن «زلزال».. محاولة جديدة من «ولاية سيناء» لفك الحصار/ مدى مصر 11 فبراير 2020

[5] طوارئ في سيناء بسبب «صفقة القرن»| سقوط طائرة بدون طيار في بئرالعبد| «ولاية سيناء» يعلن مقتل اثنين من عناصره| حشد ووجبة في مؤتمر تأييد القبائل للسيسي/ مدى مصر 30 يناير 2020

[6] عبد الله حامد ومحمد عبد الله-القاهرة/بعد عامين من القوة الغاشمة.. لماذا لم يتوقف نزف الدم في سيناء؟/ الجزيرة نت 12 فبراير 2020

[7] واشنطن بوست: بـ «العملية الشاملة» .. السيسي يأمل استعادة شعبيته/مصر العربية/ 09 براير 2018

[8] «سبوبة التطرف الدينى»/عبد الناصر سلامة/ المصري اليوم/ السبت “3”مارس 2018