خميس النقيب

الهدوء شافٍ، والجو صافٍ، والمكان كافٍ، الصوت رائع، والقلب خاشع، والجمع خاضع، تساوَت الصفوفُ، وتصافحت القلوب، وتلاقت الأرواح.
 
جمع طيب، في مكان طيب، في وقت طيب؛ وقت صلاة الفجر، قرآنُه مشهود، وجمهوره موعود، فرَضُه يجعلك في ذمة الله، ونفلُه خير من الدنيا وما فيها.
 
إنها صلاة الفجر، ما أحلاها! ما أصفاها! ما أنداها! ما أجملها! ما أروعها! طُوبى لمن حضر وخشع وفرح، خشعت الأصوات، إلا صوت الإمام يتلو القرآن، ويُبيِّن عظمة الإسلام، يظهر ثواب أتباعه، وعقاب أعدائه، كيف؟ تحدَّث عن أولئك الذين لم ينعموا بالإسلام، كيف أنهم سيندمون يوم لا ينفع مال ولا بنون، يومَ لا يكون التعامل بالدينار أو الدولار وإنما بالحسنة أو السيئة!
 
استمعتُ إلى هذه التلاوة في صلاة الفجر: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [المؤمنون: 106، 107].
 
هناك سيجدون الطريق مسدودًا تمامًا كما قالوا: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10]، مشهد من مشاهد يوم القيامة، هذا المشهد يُبيِّن وضع المذنب المُقَصِّر، وكيف أن النار تلفح وجهه، وكيف يقول وهو يتلقَّى العذاب، وما هي أُمنياته، مشاهد لا بدَّ أن يصل إليها كلُّ غافل وكلُّ كافر، عرَضَها الله في وقتٍ مبكر؛ ونحن في الدنيا!
 
هؤلاء الكفار يتوعَّدهم الله سبحانه وتعالى بالهلاك، فيا رَبِّ، إذا أريتني بأمِّ عيني هلاكَ الكفار فلا تجعلني بينهم، لا تجعلني منهم، اجعلني بعيدًا عنهم؛ لئلا يُصيبَني ما توعَّدتهم به.
 
((الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني))؛ الترمذي، وابن ماجه عن شداد بن أوس.
 
تأتيه لفحةُ النار يَنكمِش جلدُه؛ فتظهر أسنانُه بشكلٍ قبيح: ﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 104]، صورة من الخزي؛ عتاب الله للكافرين، اسمعوا العتاب الإلهي: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ [المؤمنون: 105].
 
آيات القرآن ألم تكن تُتلَى علينا؟ بلى والله، تُتلَى علينا صباحًا ومساءً، القرآنُ أليس بين أيدينا؟ ألا نسمعُه صباحَ مساءَ؟ ألم نسمع تفسيرَه؟ ما موقفُنا منه؟ ﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ [المؤمنون: 105].
 
هذه الشمس مَن أوقدها؟ وهذا القمر مَن جعله في هذه المعارج والمواقع؟ وهذه الأمطار مَن أرسلها؟ وهذه الرياح من صرفها؟ وهذه البحارُ مَن أوجدها؟ وتلك الجبال مَن أقامها؟ وهذه الحيوانات مَن خَلَقَها؟ وهذا الطعام الذي تأكله مَن أعدَّه لك؟! ﴿ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾ [الواقعة: 64]؟! لكنك - للأسف - تجد سُذَّجًا مخبولين يقولون: القرآن للأموات وليس للأحياء، يُقرأ على الأموات، وفي مناسبات الموت، الآن دعنا في سرور، إذا ذكرتَ لهم آية أو حديثًا عن الآخرة تشاءموا، دعنا في سرور...
 
﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ﴾ [المؤمنون: 106]: الاعتراف سيد الأدلة، غلبتْ علينا شِقوتنا، وكنا قومًا ضالين، يقول العلماء:
الشِّقْوَة أضيفت إليهم، فالشِّقوة هنا تعني: الشهوة، سماها الله شقوةً؛ لأن الشهوة تؤدي إلى الشقوة: "ألا يا رُبَّ شهوةِ ساعةٍ أورثت حزنًا طويلًا"؛ فلأن هذه الشهوة تؤدي إلى الشِّقوة سماها الله شِقوة.
 
﴿ غَلَبَتْ عَلَيْنَا ﴾ [المؤمنون: 106]: إننا آثرنا شهواتِنا على طاعة ربنا، نحن مخيَّرون، اخترنا شهواتِنا على طاعة ربنا، آثرنا حظوظَ أنفسنا، آثرنا المُتَع الرخيصة يا رب، وهكذا ﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ﴾[المؤمنون: 106].
 
لِمَ نبحث عن الحق؟ الحقُّ كان جليًّا، كان واضحًا ولكن تعامينا عنه، ما بحثنا عنه، لم نعبأ به، بحثنا عن الدنيا، عن الدرهم والدينار؛ ﴿ وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [المؤمنون: 106، 107]، لا كلام ولا اعتذار، إذا طُلِب منك طلبٌ لا يُعْقَل أن يحَقق، لا تَقُل له: لا، بل تقول له: اخرج من هنا.
 
﴿ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 108]، ﴿ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنعام: 27].
 
﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِين ﴾ [الزمر: 56]، ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾ [الفرقان: 27].
 
﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 107، 108]: يعني: ابتعدوا، ولا تكلموني: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ [المؤمنون: 109، 110]، الجزاء من جنس العمل: ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾ [المطففين: 34].
 
السخرية من أهل الإيمان أصبحت تجارة الفجَّار، وأكلَ عيشِ الأشرار؛ في الفضائيات، في المجلات، في المنتديات، في الشبكات، في المؤسسات! ينشأ الشابُّ في طاعة الله؛ فيسخرُ منه إخوانه، أصدقاؤه، أقاربه، قد يسخر منه أبوه وإخوته في البيت، يقولون له: "تَشَيَّخ" لم يَعُد يفهم شيئًا، ابتعد عن سهراتِنا، طُمِس قلبه، لم يَعُد يرى شيئًا: ﴿ وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾[المؤمنون: 110].
 
كنتم تظنون أنَّكم أنتم الأذكياء وهم الأغبياء، كنتم تظنون أنكم أنتم الرابحون وهم الخاسرون، كنتم تظنون أنكم أنتم الفائزون، وهم المُخفَّفُون، كنتم تظنون أنكم أنتم الذين تعرفون كيف تكون الحياة وهم لا يعرفون.
 
يقولون: ورعهم غباء، وإحجامهم عن مباهج الدنيا ضيق أفق، وخوفُهم من الله عزَّ وجل حالة مرضية، واستقامتهم تشدد ... ﴿ وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ [المؤمنون: 110].
 
هؤلاء الذين انغمسوا في ملذَّات الدنيا إلى قمة رؤوسهم كانوا خاسرين، هؤلاء الذين أقبلوا على الدرهم والدينار، وعبدوا شهواتِهم من دون الله هم الخاسرون؛ لذلك ربنا عزَّ وجل قال: ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾ [المطففين: 34].
 
الشِّقوة في اتخاذ الشهوة طريقًا، وتبني السخرية للنيل من الذين آمنوا، لكن الله بالمرصاد لكلِّ هؤلاء!
 
اللهم اهدنا للحق، وارشدنا للخير، اللهم توفَّنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.

[email protected]