مقدمة

 

يمثل استقلال السلطة القضائية أحد علامات النهضة بالدول المتقدمة ومظهر لمسار الحياة الديمقراطية بها فالقضاء هو أساس العدل في المجتمع فإذا أصاب هذا الجهاز أي عطب ستنهار بالضرورة أهم الركائز التي يقوم عليها المجتمع لذا كان من أهم مطالب جماعة الإخوان المسلمين في برامجها ورؤاها الإصلاحية المختلفة هي ضرورة استقلال السلطة القضائية وعدم تغول السلطة التنفيذية عليها وكان هناك العديد من المواقف والرؤى التي طرحتها جماعة الإخوان المسلمين لتفعيل استقلال السلطة القضائية وقدم الإخوان الكثير من التبعات والتضحيات تجاه هذه الموقف المبنى على ضرورة الفصل بين السلطات لضمان استقامة أسس الدولة المصرية،ويثور الجدل الآن بين المحامين والقضاة حول قانون استقلال السلطة القضائية، وكان استقلال القضاة والسلطة القضائية من أهم ساحات المواجهة بين الأنظمة الديكتاتورية القمعية والتيار الإصلاحي المجتمعي الذي كان ومازال الإخوان المسلمون أحد عناصره القوية لذا كان موقف الإخوان واضحاً من هذا الجدل بضرورة أن يكون هناك توازن بين عنصري السلطة القضائية (القضاة والمحامين).

لذا كان هذا البحث الذي نستجلى فيه رؤى ومواقف جماعة الإخوان المسلمين تجاه السلطة القضائية منذ مرحلة التأسيس وحتى الآن وقبل أن نتعرض لموقف الإخوان من استقلال السلطة القضائية يجب أن نتعرض لطبيعة المشكلة وكذلك أهم المحطات التاريخية في تاريخ القضاء المصري وهى مذبحة القضاء عام 1969.


تعريف مفهوم السلطة القضائية

السلطة القضائية Judiciary هي سلطة الفصل في المنازعات المعروضة أمامها. وهي ثالث سلطات الدولة. ويشاركها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية هي فرع الدولة المسؤول عن التفسير الرسمي للقوانين التي يسنها البرلمان وتنفذها الحكومة. وهي المسؤولة عن القضاء والمحاكم في الدولة ومسؤولة عن تحقيق العدالة. كما أنها مسؤولة عن مسيرة وتقاليد القضاء في الدولة ومصداقية القوانين التي تطبقها.


مشكلة استقلال القضاء كما يطرحها المستشار محمود الخضيرى

يشرح المستشار / محمود رضا الخضيري نــــائب رئيس محـــكمة النــــقض ورئيس نادى القضاة بالإسكندريــــة سابقا وأحد رموز تيار الاستقلال بنادي القضاة في مقال له بعنوان: (كيف يضفى القانون الحالي مشروعيه الاعتداء على استقلال القضاء ؟) إشكالية ضرورة استقلال السلطة القضائية وطبيعة المشكلة التى حدثت عام 2005 فكتب يقول:

سلطات الدولة في الدول الديمقراطية – ثلاثة – التنفيذية والتشريعية والقضائية والمبدأ الذي يجب أن يحكم هذه السلطات هو استقلال كل واحدة فيها عن الأخرى فيما يتعلق بوظيفتها والمهام الملقاة على عاتقها والأدوات التي تؤدى بها وظيفتها فيما يسمى الفصل بين السلطات , وهو فصل في إطار التعاون بينهما بما يحقق للدولة أكبر فائدة من وجود هذه السلطات , ولما كانت السلطة التنفيذية بحكم التطور الطبيعي والتاريخي هي أقدم هذه السلطات ولم توجد السلطتان التشريعية والقضائية إلا بعد ذلك بحكم التطور الطبيعي وعدم رغبة الشعوب في تركيز السلطة في يد واحدة وهو ما يؤدى إلى وجود الدكتاتورية التي عانت منها شعوب الأرض لفترات طويلة وما تزال تعانى في كثير من البلاد التي لا تعرف تعدد السلطات واستقلالها استقلالا حقيقياً .

ومنذ وجدت السلطة القضائية وهى تعانى من تدخل السلطة التنفيذية في شئونها لأنها إنما ولدت من رحم السلطة التنفيذية حيث كان من بين مهام الحاكم في الدول قبل تطورها الحكم بين الناس وهو ما يزال سائداً فى المجتمعات البدائية ولذلك فإن السلطة التنفيذية تجد أحياناً من مهامها التدخل في شئون السلطة القضائية وتعتبر أن أي استقلال تتمتع به السلطة القضائية هو انتقاص من سلطها تحارب من أجل عدم إتمامه وتضع أمامه العقبات والعراقيل , فلم يحدث أن حصلت السلطة القضائية على ميزة توفر لها الاستقلال إلا بعد جهد جهيد ومجهود وفير وكفاح مرير يستمر سنوات طويلة , فالحصانة القضائية في مصر حصلت عليها السلطة القضائية على ثلاث مراحل في الأولى كانت الحصانة قاصرة على القضاة فقط بشرط مرور أربع سنوات على التعيين في درجة قاض بحجة التأكد من صلاحية المعين لشغل هذا المنصب قبل التمتع بالحصانة وفى الثانية حصل القاضي على الحصانة فور تعيينه مع حرمان أعضاء النيابة العامة بما فيها النائب العام من الحصانة و أخيراً وبمقتضى القانون رقم 35 لسنة 1984 بتعديل قانون السلطة القضائية حصلت النيابة العامة على الحصانة عدا معاوني النيابة , وفى كل مرة من هذه المرات كان يسبق ذلك كفاح و جدل وحوار ومساومات تنتهي بالحصول على بعض المطالب مع ترك الأخرى إلى مرحلة تالية فيجد القضاة أنفسهم في حالة يصعب معها الإصرار على تحقيق كل المطالب فيقبلون بالبعض مع ترك الباقي لمرحلة مقبلة , وما يحدث هذه الأيام من كفاح في سبيل تحقيق بعض المطالب التي يطالب بها القضاة منذ عام 1991 حتى الآن , والجهاد الذي يقومون به من أجل ذلك في اجتماعاتهم وجمعياتهم العمومية ومساومة الحكومة في ذلك ومحاولة شق صف القضاة للتغلب على مطالبهم باستقطاب بعضهم للوقوف ضد الأغلبية التي تطالب بالمزيد من الضمانات في مشروعها الذي أعدته من 1991 ثم قامت بتطويره أخيراً وتكافح في سبيل استصداره منذ أكثر من عام وحتى الآن لم يتحقق لها ما تريد بل تقوم الحكومة بعرقلة إصداره ومحاولة دفع بعض الجهات لتقديم مشروعات متعارضة مع مشروع القضاة والدس والوقيعة بينهم حتى تتمكن من تنفيذ رغباتها في السيطرة على القضاة ومحاربة سعيهم إلى الاستقلال المالي والإداري عن السلطة التنفيذية وهو ما يقاومه بشدة جموع القضاة ...(1)


مذبحة القضاء عام 1969

لقد كانت أحداث (مذبحة القضاء) عام 1969 أبرز معركة سياسية وفكرية ذات طابع قانوني تدور في بلادنا على امتداد القرن السابق عليها منذ عرفت بلادنا الأفكار القانونية الحديثة في أواسط القرن التاسع عشر حيث إن بعد نكسة 1967 أصبحت هناك فجوه بين القادة الذين تمثلوا في الرئيس جمال عن الناصر و عبد الحكيم عامر و رجال القانون الذين تمثلوا في رجال القضاء.. كانت البداية بعد النكسة عندما تكون التنظيم السري و اشمأزت نفوس القضاة من أعضاءه و عبروا عن مشاعرهم لوزير العدل عصام الدين حسونة الذي نقل بدوره رأيهم إلى الرئيس و لان الرئيس جمال عبد الناصر كان يثق في أعضاء التنظيم السري، فكان يقرأ تقاريرهم السرية بنفسه، ويؤشر عليها بيده، وأوهم التنظيم السري الرئيس أن القضاة يتحرقون شوقا للانخراط في النضال السياسي من خلال الانضمام للاتحاد الاشتراكي، ما عدا قلة في مجلس إدارة نادي القضاة، تتحدث عن تقاليد بالية، وعن استقلال القضاء، والبعد عن العمل السياسي، ولأن أنصار التنظيم السري هي بالآلاف، فقد عزموا علي تحرير النادي من بقايا الرجعية، خلال الانتخابات المحدد لإجرائها يوم 28/3/1968، وأعلن التنظيم أسماء مرشحيه ورفعوا راية السلطان، وحددوا الهدف، وبارك الرئيس عزيمتهم فغير وزير العدل بتاريخ 20/3/1968 وصار محمد أبو نصير قائد التنظيم وزيرا للعدل، وقائدا للمعركة الانتخابية، فهؤلاء هم رجال الثورة، وخصومهم هم بقايا الرجعية المغضوب عليهم.و في يوم وأصدرت الجمعية العامة للقضاة بتاريخ 28/3/1968 بيانا، يمثل رؤية القضاة للقضايا التي طرحها محمد أبو نصير في اجتماعاته بمناسبة انتخابات ناديهم ..

وسنعرض لبعض فقرات هذا البيان التاريخي الذي أعقبه ما أطلق عليه "مذبحة القضاء" يقول البيان:

 

ومن هنا وجب تأمين الحرية الفردية لكل مواطن في الرأي والكلمة والاجتماع، وفي المشاركة بالنقد والحوار والاقتراح، وفي الإحساس بالمسؤولية والقدرة علي التعبير الحر، ولا يكون ذلك إلا بتأكيد مبدأ الشرعية الذي يعني في الدرجة الأولي كفالة الحريات لكل المواطنين، وسيادة القانون علي الحكام والمحكومين علي سواء.
وتحقيقًا لسيادة القانون، وحتى يكون ـ كما أراده الميثاق ـ خادما للحرية وليس سيفا مسلطا عليها يتعين البدء فورا في إزالة كل البصمات التي شوهت بها أوضاع ما قبل النكسة صورته، ليأمن جميع المواطنين علي حرياتهم وحرماتهم، فلا تسلب أو تمس إلا طبقا لأحكام القانون العام وحده، وبحكم من القضاء العام وحده، وبالإجراءات المتبعة أمامه وحدها.
إن قيام سلطة قضائية حرة مستقلة، ينفرد بها الدستور بتأكيد استقلالها وبيان ضمانات أعضائها، يعد ضمانة أساسية من ضمانات شعبنا، ومن ثم دعامة أساسية من دعامات صلابة الجبهة الداخلية.

 

وهذا هو جزء من مطالب القضاة في ذاك الوقت:

 

 

  • أولا: يؤمن رجال القضاء كسائر أفراد الشعب بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة،. ويرفضون أي تنازلات تحت أي ضغط من الضغوط.

 

 

  • ثانياً: إن صلابة الجبهة الداخلية تقوم في الدرجة الأولي علي تأمين حرية المواطن في الرأي والكلمة والاجتماع، وتأكيد مبدأ الشرعية وسيادة القانون في ظل من رقابة السلطة القضائية فحسب، بحيث لا تمس حريات المواطنين، إلا طبقا لأحكام القانون العام وحده، وبحكم من القضاء العام وحده، وبالإجراءات المتبعة أمامه وحدها.

 

 

  • ثالثاً: إن القضاء سلطة مستقلة عن باقي السلطات، ورسالة سامية تصل بين القاضي وخالقه، ولا يراعي في قضائه ـ إلا نصفه المظلوم والأخذ بيد الضعيف، ولذلك عنيت جميع الدول مهما اختلفت نظم الحكم فيها ـ برسالة القضاء وعملت علي استقلاله عن باقي السلطات وتوطيد سلطته ورعاية القائمين عليه ـ لا مراعاة لأشخاص القضاء، ولكن لتوفير ضمانة من ضمانات الشعب في أن يعيش في جو من الأمن والعدالة والاستقرار.

 

 

  • رابعاً: يري رجال القضاء والنيابة ـ محافظة منهم علي استقلال القضاء وضمانات العدل ـ أن يكونوا جميعا بعيدين عن المشاركة في أي تنظيمات سياسية في الاتحاد الاشتراكي علي كل مستوياته...(2)

 

وكانت نتيجة هذا البيان فصل عدد كبير من القضاة من مناصبهم وكان من بينهم المستشار محمد المأمون الهضيبى (مرشد جماعة الإخوان المسلمين فيما بعد).

 


السلطة القضائية كما يراها الإخوان

يطرح د عبد المعز رسلان في دراسته للدكتوراه عن " التربية السياسية عند الإخوان المسلمين في الفترة من 1928 إلى 1954م في مصر "مفهوم السلطة القضائية كما يراها الإخوان المسلمين وأكد على أن نظرة ورؤية الإخوان للسلطة القضائية ترتكز على استقلالها عن السلطة التنفيذية فيقول:

 

هي سلطة مستقلة عن السلطة التنفيذية مصدرها الأمة برغم أن رئيس الدولة هو الذي يولي القضاء إلا أنه يوليهم بصفته نائبا عن الأمة فالقضاة ومن إليهم نواب عن الأمة ولذلك لا يعزلون عن عملهم بموت رئيس الدولة أو عزله وهذه السلطة تتولاها المحاكم وتصدر الأحكام كما يرون باسم الله وحده.
وأكد الإخوان وقرروا نظرية دستورية القوانين فيرى عودة و مشروع الدستور أن للقضاة أن يمتنعوا من تلقاء أنفسهم عن تطبيق أي قانون مخالف للشريعة ولأحكام الدستور المقترح نصا وروحا وللمتقاضين أن يطالبوا إلى القاضي ذلك في أثناء النظر في النزاع وقد نص مشروع الدستور على أنه لكل مواطن الحق في رفع دعوى يطالب فيها بإبطال قانون مخالف لأحكام الإسلام أو الدستور أو مجاف لها أمام محكمة خاصة ينظمها القانون مادة 63 أي أن السيادة هي للشريعة الإسلامية والدستور المتفق معها...(3)

 


استقلال القضاء في فكر قيادات الإخوان

كان التركيز على استقلال القضاء والحفاظ على نزاهته وبعده عن تأثير وضغوط السلطة التنفيذية من أهم ركائز الدعوات الإصلاحية لجماعة الإخوان المسلمين وقياداتهم منذ نشأة الجماعة ومن المفارقات اللطيفة أنه كان هناك من مرشدي الجماعة الثمانية حتى الآن مستشارين هما( حسن الهضيبي "المرشد الثاني" ومحمد مأمون الهضيبي "المرشد السادس") ومحاميان (عمر التلمساني "المرشد الثالث"، محمد هلال "فترة انتقالية") لذا نجد في أدبيات مرشدي الإخوان وقياداتهم العديد من المواقف والمطالبات بضرورة استقلال السلطة القضائية وأن لا تقع تحت سيطرة السلطة التنفيذية .


الإمام البنا والقضاء

كان المشروع الحضاري للإمام البنا -رحمه الله- يرى أنَّ الدولة الإسلاميَّة يجب أنْ تقوم على أساس الطاعة والدعم بالأموال والأنفس من جانب المواطنين تجاه الدولة أو الأمة حال قيام الدولة أو الحاكم بواجباته والتزاماته مثل تحقيق العدالة والأمن وصيانة المال العام ونشر التعليم والتنميَّة ونشر الفضيلة، والعمل على اكتساب كافة دعائم القوة الشاملة لتسود الأمة الإسلاميَّة على كل ما عداها من أممٍ أخرى وتُقَدِّم النموذج الذي يُحتذى من الآخرين كأقوى وسيلة لنشر الإسلام في العالم.

وبما أنَّ الإخوان فكرة إصلاحيَّة شاملة كما قال البنا في رسالته إلى المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس الجماعة، فإن مشروع الدولة الإسلاميَّة تم وضع تصور دقيق وشامل له بين شكل سلطات الدولة ومهامها (التشريعيَّة والقضائيَّة والتنفيذيَّة)، وكذلك شكل المشروع الاجتماعي والاقتصادي الذي يجب على الدولة في الإسلام تبنيه، وكيفيَّة الحفاظ على المال العام.

ولعل أهم ما طرحه الإمام البنا في هذا المقام كان مبدأ استقلاليَّة القضاء وسيادته، وكذلك مبدأ الفصل ما بين السلطات، هذا على المستوى السياسي، أمَّا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فقد ركَّز البنا على أهميَّة سيادة الأخلاق الإسلاميَّة في العمل الاقتصادي والبعد الاجتماعي بحيث لا يكون هناك فساد أو احتكار، وتسود قيم العدالة الاجتماعيَّة، والتكافل الاجتماعي، وحمايَّة المال العام.

ويذكر الإمام البنا في رسالته نحو النور وتحت عنوان (بعض خطوات الإصلاح العملي) عدد من النقاط المطلوبة لتحقيق نهضة حقيقية للمجتمع المصري ومن بين هذه الخطوات التي ذكرها الإمام البنا:

 

إصلاح القانون حتى يتفق مع التشريع الإسلامي في كل فروعه...(4)
كما ذكر في رسالة الإخوان المسلمون تحت راية القرآن أن القضاء الذي يريده الإخوان هو

 

ونظام عملي للقضاء يستمد من الآية الكريمة: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء: 65]...(5)

 

كما طالب في رسالة المؤتمر السادس بضرورة إصلاح القضاء فيقول: وإصلاح القانون باستمداده من شرائع الإسلام، ومحاربة المنكر، ومقاومة الإثم بالحدود وبالعقوبات الزاجرة الرادعة...(6)

 


الإمام البنا والدعوة لتوحيد القضاء

كانت نشأة الجماعة في ظل نشأة المحاكم المختلطة وتعدد أنواع القضاء لذا كان مطلب توحيد القضاء من أهم المطالب الرئيسية التي طالبت بها الجماعة في تلك الفترة فكتب الإمام البنا في افتتاحية مجلة النذير تحت عنوان: (الشريعة الإسلامية وتوحيد القضاء في مجلس النواب) كتب يقول:

 

إن الذين يطالبون بتوحيد القضاء في مصر سيجدون منا معشر الإخوان المسلمين- ونعتقد أننا في ذلك إنما نعبر عن مشاعر الأمة كلها- كل ترحيب بفكرتهم، فنحن نعمل لتوحيد هذا البلد في كل شيء في ثقافته وفى قضائه وفى مشاعره وأهدافه فليس عجيبا أن نفرح بتوحيد القضاء، وأن نرحب (بالمحكمة المصرية) التي ينشدها الأستاذ السنهورى، ويتحدث عنها كثيرا، ولكن ما القانون الذي تحكم به المحكمة المصرية في درجاتها المختلفة؟
لا نرضى أن يكون غير القانون المستمد من تشريع السماء، من كتاب الله تبارك وتعالى من القرآن الكريم، من المبادئ الإسلامية الكفيلة بالعدالة والإنصاف.
إن الإسلام لا يمنع من اقتباس الصالح من كل شيء، ولكن يشترط ألا يتناقض معه فلتتوحد المحكمة المصرية على أساس القانون الإسلامي مدعما بما يعضده ويؤيده ويتفق مع مبادئه وتعاليمه من كل تشريع حديث أو قديم...(7)

 

كما تعرض الإمام حسن البنا لنفس القضية عام 1940 "قضية توحيد القضاء" في افتتاحية جريدة التعارف فكتب يقول:

 

تعرض النائب المحترم إسماعيل صدقي باشا في مناقشة ميزانية وزارة العدل لتوحيد القضاء المصري، وقال: إننا إذا كنا نعمل على توحيد القضاء الأهلي والمختلط، وقد أخذنا فعلاً فكرة توحيد القانون المدني والجنائي والتجاري... إلخ فلماذا يظل القضاء الشرعي بعيدًا عن الإدارة العامة للقضاء المصري؟
وعقب فضيلة النائب المحترم الأستاذ الشيخ محمد عبد اللطيف دراز على هذا كله بقوله: إننا نرحِّب بتوحيد القضاء إذا كان القانون سيكون مستمدًّا من الشريعة الإسلامية.
وإذا كانت هذه المعاني تمرُّ على كثير من الناس دون أن يهتموا بها كثيرًا فإننا-نحن الإخوان المسلمين- نرى أن هذه الناحية الحيوية من أهم نقاط منهاج الإخوان المسلمين، فلا يجب أن تمر دون أن نذكِّر أولي الرأي في هذا البلد بواجبهم، ودون أن نلفت أنظار الإخوان إلى واجبهم كذلك.
أما توحيد مظاهر الحياة المصرية من تعليم وعادات وقضاء... إلخ فنحن معشر الإخوان المسلمين نرحب به وننادي به ونعمل له، بل إننا نرى أن أساس نجاح نهضة الأمة هو التوحيد، وبدونه لا يتم هذا النجاح بحال، فنحن لسنا خصومًا لفكرة التجانس بين أبناء الأمة الواحدة؛ حتى يتم تعاونهم على الخير، بل نحن نحب هذا من أعماق قلوبنا ونعمل له ما وسعنا العمل.

 

ولكن ما قاعدة هذا التوحيد؟!

 

نحن أمة مسلمة تغلغل في أعماق قلوبها الإسلام بأصوله وفروعه، واحتلَّ منها كلَّ موضع، ولقد برهنَت مصر على أنها معقل الإسلام حقًّا في كل أدوار تاريخها الإسلامي، علمًا وعملاً، فمصر منذ آمنت بالإسلام قد أخلصت له، واطمأنت إليه، واصطبغت بتعليمه صبغةً لا زوال لها، ولا فكاكَ عنها، ولقد أقامت مصر للإسلام المعاهد العلمية التي لا تضارعها معاهد إسلامية أخرى في أية بلاد إسلامية، وحسبنا الأزهر القائم منذ ألف سنة، ولقد دافعت مصر عن الإسلام بدمها ومالها، وفدته بزهرة شبابها، وجردت في سبيله الجيوش المظفرة تحمل لواء الله، وترفع راية القرآن من نصر إلى نصر، وهذا الشعب المصري مهما قيل عن تحلله وضعفه فإن شيئًا واحدًا لا يزال حيًّا في نفسه، قويًّا كل القوة في وجدانه، ذلك هو حبه للإسلام، واعتزازه له، وتقديسه إياه.
وإذا عرفنا هذه الحقائق ووعيناها فإن من واجبنا حينئذٍ أن نقول: إن القاعدة التي يجب أن تتوحَّد عليها مظاهر الحياة المصرية في كل نواحيها لا تكون شيئًا أبدًا غير هذه القاعدة.
"اعتماد كل هذه المظاهر للحياة العملية الفردية والاجتماعية والرسمية والأهلية على تعاليم الإسلام وأحكامه وشرائعه وما لا يتعارض منها من نتائج اليراع والعقول والمظاهر النافعة في حياة الأمم أيًّا كانت".
على هذه القاعدة ندعو إلى : توحيد القضاء، فلا يكون هناك إلا نوعٌ واحدٌ من المحاكم له درجاته المختلفة.
فإذا كان دولة صدقي باشا يقصد هذا، فنحن كما قال الأستاذ الشيخ دراز متفقان.
وإذا كان يريد توحيدًا فحسب على أي لون كان من الألوان فنحن نذكِّره بواجبه كرجل مسلم، وإذا أصرَّ الداعون إلى التقليد الأعمى على موقفهم فنحن لهم بالمرصاد وسننتصر بتأييد الله.. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُون*بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم﴾ (الروم: 4-5)...(8)

 

كما أرسل الإمام البنا برقية تأييد لمذكرة القضاة الشرعيين ونشرت جريدة الإخوان المسلمين نص البرقية وجاء فيها:

 

 

إلى شيوخ الأمة ونوابها بمناسبة قانون المحاكم الحسبية

صاحب المعالي رئيس مجلس الشيوخ:

يؤيد المركز العام (للإخوان المسلمين) وجهة النظر الواردة بمذكرة القضاة الشرعيين فيما يتعلق بتشكيل هيئة المجالس الحسبية، ويرجو أن يأخذ المجلس الموقر بها صيانة للحقوق ووضعا للأمور في نصابها...(9)


المستشار حسن الهضيبى ومواقف للاستقلال القضاء

كان من مميزات المستشار حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان رحمه الله قلة كلامه وصمته المعبر عن مواقفه أكثر من حديثه وكانت مواقفه الشامخة والعظيمة دليل واضح على رؤيته لما يجب أن يكون عليه القضاء ورجل القضاء في مصر وسنذكر هنا موقفين للأستاذ الهضيبى يتعلق بالقضاة وهو موقف لقائه مع الملك فاروق والموقف الآخر يتعلق بأحد الأحكام القضائية التي صدرت في عهد عبد الناصر في بدايات الثورة عندما كانت العلاقة جيدة بين الإخوان ومجلس قيادة الثورة:

الموقف الأول: الجبين المرفوع.. أمام الملك فاروق

 

كان من تقاليد حلف اليمين بالنسبة للقضاة في عهد الملك فاروق أن ينحني القاضي أمام الملك وهو يؤدى اليمين فكان المستشار حسن الهضيبي أول مَن كسر تقاليد الانحناء بين يدي الملك، عند حلفه اليمين القانونية التي يؤديها أمامه قبل تولي مناصب المستشارين، إذ كانت دفعته حوالي عشرة، سبقه منهم خمسة لم يترددوا في الانحناء عند حلف اليمين رغم تهامسهم بالتذمر من هذا التقليد المهين، حتى إذا جاء دور الهضيبي، الواهن البنية الصامت اللسان، فاجأ الجميع بأن مدَّ يده لمصافحةِ الملك وأقسم اليمين منتصب القامة مرفوع الجبين، بصورةٍ أنعشت الإباء فيمن بعده- وأولهم محدثي الباشا (س. ر)- فأدى يمينه قائمًا عالي الرأس، وهو يقول لنفسه: "إذا شنقوا الهضيبي فليشنقوني معه"، وتبعهما سائر المستشارين فصافحوا الملك وأقسموا اليمين دون خضوع أو انحناء.

 

الموقف الثاني: اعتراضه على الحكم بإعدام إبراهيم عبد الهادي

 

يسجل التاريخ أن المستشار حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين في أول قيام الثورة وقبل أن يختلف الإخوان المسلمين مع عبد الناصر وعندما كانت الأمور بينهم كلها بالتشاور مع قادة الإخوان وعبد الناصر .. عندما علم المرحوم الهضبيى أن محكمة الثورة حكمت على إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء السابق بالإعدام . . ورغم عداوة الإخوان المسلمين لإبراهيم عبد الهادي الذي نكل بالإخوان المسلمين وأعتقلهم وعذبهم واغتال حسن البنا بتدبير حكومته وفي عهده رغم كل ذلك أعترض الهضيبى على هذا الحكم بأسره وأرسل المرحوم حسن العشماوي عضو مكتب الإرشاد إلى عبد الناصر طالبا منه إلغاء حكم الإعدام على إبراهيم عبد الهادي لأنه لم يحاكم أمام قاضيه الطبيعي في المحاكم العادية . . بل حوكم أمام محكمة استثنائية وهذا عدوان صارخ على استقلالية القضاء . . وعلى الحرية.
ولم يهدأ له بال حتى ألغى هذا الحكم وهذا موقف عظيم يحسب للمرحوم المستشار حسن الهضيبي .

 

وكلا الموقفين بالنسبة للمستشار حسن الهضيبي دليل واضح على رؤيته للقضاء والقاضي وما يجب أن يكون عليه من شموخ للنفس وقوتها وعدم خضوعها حتى لو كان أمام الملك أو الحاكم في ظل قوته وهيبته بل يجب أن يكون القاضي مرفوع الرأس دائماً ولا يخضع لأحد سوى الله سبحانه وتعالى، وكذلك ضرورة أن يٌحاكم الإنسان أمام قاضيه الطبيعي حتى تتوفر كافة الضمانات لمحاكمة عادلة دونما أي ضغوط من السلطة الحاكمة كما شهدنا العديد من تلك المحاكم التي كانت تصدر أحكامها وفقاً لرؤية السلطة التنفيذية.


السلطة القضائية واستقلالها كما يراها الشهيد عبد القادر عودة

كان الشهيد عبد القادر عودة من أهم الرموز القضائية للإخوان المسلمين وكان له العديد من الكتب والدراسات التي تتناول المفاهيم القضائية والجنائية ومن أهم هذه الكتب على الإطلاق (التشريع الجنائي في الإسلام) الذي يعد من أهم المصادر القانونية وكذلك كتابه الرائع (الإسلام وأوضاعنا السياسية) والذي شرح فيه مهمة السلطة القضائية ودورها المجتمعي وشدد في كتابه على ضرورة استقلال السلطة القضائية فيقول عودة عن السلطة القضائية:

مهمة هذه السلطة هي توزيع العدالة بين الناس و الحكم في المنازعات و الخصومات و الجرائم و المظالم , و استيفاء الحقوق ممن مطل بها و إيصالها إلى مستحقيها و الولاية على فاقدي الأهلية و السفهاء و المفلسين , و النظر في الأوقاف و أموالها و غلاتها إلى غير ذلك مما يعرض على القضاء .

والإسلام يوجب على القضاة أن لا يجعلوا لأحد عليهم سلطانا في قضائهم , و أن لا يتأثروا بغير الحق و العدل , و أن يتجردوا عن الهوى و أن يسووا بين الناس جميعا :" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " النساء :58 , " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " ص : 26 , " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله و لو على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين أن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " النساء : 135 .

و تاريخ القضاء الإسلامي قاطع في أن القضاة كانوا دائما مستقلين في عملهم لا سلطان لأحد عليهم إلا الله , و لا يخضعون في قضائهم إلا لما يقضي به الحق و العدل .

من ذلك أن إبراهيم بن اسحق قاضي مصر سنة 104هـ اختصم إليه رجلان فقضي على أحدهما فشفع إلى الوالي فأمره الوالي أن يتوقف في تنفيذ الحكم , فجلس القاضي في منزله حتى ركب إليه الوالي و سأله الرجوع إلى عمله , قال لا أعود إلى ذلك المجلس أبدا , ليس في الحكم شفاعة . و وقع بين أم المهدي و بين أبي جعفر المنصور خصومة , فتحاكما إلى غوث بن سليمان قاضي مصر , فحكم لصالح أم المهدي ضد الخليفة .

و قضي خير بن نعيم على أحد الجنود بالحبس فأخرجه الوالي من المحبس , فاعتزل خير بن نعيم وجلس في بيته فلما طلب منه الوالي الرجوع لعمله قال لا حتى يعود الجندي إلى المحبس.

و لقد قضى شريح على عمر بن الخطاب في خلافته , و قضى ضد علي بن أبي طالب في خلافته , و كلاهما ترافع إليه و هو يعتقد أنه على حق , و الأمثلة من هذا النوع كثيرة جدا .

و الإمام هو الذي يولي القضاة بصفته نائبا عن الأمة , و له الإشراف عليهم و عزلهم بهذه الصفة و لا يعتبر القضاة بمجرد تعيينهم نوابا عن الإمام , إنما يعتبرون نوابا عن الأمة , و لذلك لا يعزلون عن عملهم بموت الإمام أو عزله , كما أن الإمام لا يملك عزلهم لغير سبب يوجب العزل .

و على هذا الأساس يعتبر القضاة سلطة مستقلة مصدرها الأمة , و إذا كان الإشراف على هذه السلطة للإمام فإنما يشرف عليها بصفته نائبا عن الأمة .

و يلاحظ أن التقاليد الإسلامية جرت من أول عهد الإسلام على أن يباشر رئيس الدولة القضاء , فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقضي بين الناس و كذلك كان الخلفاء الراشدون , و كان المتفقهون من الخلفاء بعدهم يقضون , ثم انتهى الأمر إلى ترك القضاء للقضاة المختصين به , و لعل ذلك راجع إلى عدم إلمام الخلفاء بالفقه أو عدم مرانهم على القضاء...(10)


التلمسانى واستقلال القضاء (قانون العيب كنموذج)

كان للمرشد العام الثالث للإخوان المسلمين الأستاذ عمر التلمساني تعليقاته على بعض الموضوعات القانونية بصفته أولاً كمرشد للإخوان المسلمين ثم صفته كمحامى مارس المحاماة فترة من الزمن فانتقد التلمسانى مشروع قانون العيب الذي قُدم في أواخر عهد الرئيس الراحل أنور السادات واعتبر التلمسانى هذا القانون يمس استقلالية القضاء لما به من عيوب وصفها بالخطيرة وتتجاوز سلطة استقلال القضاء من إنشاء محاكم خارج سلطة القضاء الطبيعي وهو ما عانى منه الإخوان كثيراً سواء في عهد محكمة الشعب الشهيرة أم مؤخراً في عهد المحاكمات العسكرية العديدة التي نظمت للإخوان المسلمين وقادتهم فتحت عنوان (عيوب خطيرة في مشروع قانون العيب!) كتب التلمسانى:

إنَّ الحكم الذي ينادي بسيادة القانون، لا يصح أن يجعل من القانون سلاحًا يمحو سيادته فهو يعد الآن ما يسمى بـ«قانون العيب» تمهيدًا لاستصداره من مجلس الشعب.

وإذا أردنا أن نعرض لما يعتري هذا القانون الغريب من عيوب ومخالفات قانونية ودستورية، فإن صفحات هذه المجلة لا تتسع، ولكن حسبنا أن نبرز أهم هذه العيوب بالقدر الذي يتسع له المقام:

 

1- خلط المشروع بين مظاهر السلوك التي تكون عادة محلا للتأثير والعقاب وبين قيم الأخلاق التي تترك عادة لضمير المواطن دون ما تدخل من جانب المشرع، النص على عدة قيم أخلاقية مجردة – ثم أورد أفعالا غامضة وغير محددة، واعتبر من يأتي بها خارجًا على تلك القيم، ومن ثم مرتكبًا لجريمة يعاقب عليها بعقوبات بالغة الشدة والغرابة معًا.
2 - لا تقف الغرابة عند مضمون الأفعال المؤثمة، وإنما يمتد إلى إجراءات التحقيق التي تتخذ بشأنها – فالقانون يضع سلطة التحقيق في يد المدعي الاشتراكي، ورغم أنه يصف ذلك التحقيق بأنه "تحقيق سياسي" وهو بدعة لم نسمع عنها من قبل إلا أنه يخول ذلك المحقق السياسي سلطة القبض والتفتيش وهي من إجراءات التحقيق القضائي في القضايا الجنائية، وفكرة المدعي الاشتراكي فكرة دخيلة على بلدنا، ولا مثيل لها في أي بلد آخر، وقد أثبتت التجارب الماضية أن هذا المدعي كان دائمًا مع الحكومة والحزب الحاكم، ينفذ لها أغراضها ولو على حساب الشرعية والقانون، وهذا أمر طبيعي؛ لأنه لا يعدو أن يكون من الجهات القضائية ولا يندرج في إطار السلطة القضائية، وإنما هو يشغل وظيفة سياسية بدرجة وزير أو نائب رئيس وزراء، وليست له أية صفة قضائية، ولا حصانة وبالتالي فولاؤه للحزب الذي وضعه في هذا المنصب.
إنَّ النيابة العامة وحدها -وهي إحدى شعب السلطة القضائية- هي المختصة وحدها بالتحقيقات الجنائية ومباشرة سلطة الاتهام أمام المحاكم، لذلك فإنه من غير المقبول أن ينزع ذلك القانون اختصاصها في أخطر الجرائم – وهي الجرائم السياسية وجرائم الرأي والفكر ليعد به إلى جهاز المدعي الاشتراكي الذي لا بدَّ له من الحيدة والتجرد والاستقلال.
3- أما المحكمة التي تختص بالمحاكمة عن تلك الجرائم، فهي بدورها محكمة عجيبة في عالم القانون والعدالة إذ ليست مكونة من القضاة الطبيعيين الذين أشار إليهم الدستور في المادة 68 منه والتي نصت على كفالة حق كل مواطن في الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي – وإنما نص مشروع القانون على تشكيل تلك المحكمة من أربعة من أعضاء مجلس الشعب وثلاثة من مستشاري محكمة النقض – أي أن الغلبة للعنصر السياسي والحزبي الذي يفتقر إلى خصائص القاضي الطبيعي وهي الحيدة والتجرد والحصانة والاستقلال، وبالتالي فإن الحكم في هذه الخصومة ذات الطبيعة السياسية سوف يكون معروفًا مسبقًا.
بل إنَّ الأمر يزداد غرابة إذا ما علمنا أن الأحكام التي تصدرها تلك المحكمة الفريدة في نوعها بتوقيع هذه العقوبات القاسية، هي أحكام نهائية، لا تقبل الطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن!

 

ويضيف التلمسانى في مقاله ويقول:

 

وباختصار فإن هذا القانون الخطير يهدد أمن المواطنين الشرفاء جميعًا ويهدد السلام الاجتماعي في هذا البلد، ويمكن الحزب الحاكم من البطش والتنكيل بمعارضيه، بل بكل صاحب رأي أو فكر لا يرضى عنه، ويجعل من أبناء هذا الشعب العريق مجرد آلات لا تملك أن ترفع صوتها باعتراض أو رأي.
وحسب هذا القانون عيبًا ما نشرته جريدة الشعب الصادرة في يوم الثلاثاء 18 ربيع الأول سنة 1400هـ الموافق 5 فبراير سنة 1980م من أن مجلس إدارة نادي القضاة يعلن أن قانون العيب اعتداء صارخ على استقلال القضاة، ويطالب بسحب المشروع احترامًا للدستور.
وليس إذن بعد قول المختصين الذين لا يرقى الشك إليهم من قول، هذا إلى أننا نعارض هذا القانون، لا خوفًا منه، فإننا لا نخاف إلا الله، وما في قدره هو النافذ حقًّا وصدقًا، ولكننا نعارضه؛ لأننا لا نريد أن يصدر من القوانين ما يسيء إلى مصدريه، ذلك لأننا نسأل الله الخير والهدى للناس أجمعين، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة:83]...(11)

 


المستشار مأمون الهضيبى واستقلال القضاء

 

لم يكن المرشد السادس محمد المأمون الهضيبي رجل تنظيم فقط؛ بل امتد نشاطه إلى الجوانب والنواحي الفكرية والتنظيرية التي أسهم فيها بنصيب كبير استجابة لواقع الحركة وظروف المرحلة التي تطلبت إحداث اجتهادات فكرية تتناسب مع التطورات الحادثة في المجتمع الدولي والمصري.

 

وكان من أبرز ما طرحه الهضيبي هو ما أسماه بالخمسة عشر مبدأً التي اعتبرها المبادئ الديمقراطية التي تنادي بها الجماعة، ودعا الأحزاب والقوى السياسية في مصر إلى تأييدها كميثاق وطني وكان من بينها:

  • كفالة استقلال القضاء بجميع درجاته وبكل الإجراءات ووضع كل الشروط لإبعاده عن أي مظنة خوف أو طمع، وألا يحاكم أحد إلا أمام قاضيه الطبيعي وأن تلغى جميع أنواع المحاكم الاستثنائية ويقتصر اختصاص المحاكم ال