مقدمة

  • د. عزت: كنا نحتفل بالعيد بـ"تورتة الأرز والخبز والعسل".
  • د. غزلان: كنا حريصين على تهنئة الضباط والعساكر.
  • د. الصولي: حفلات السمر عادة إخوانية في السجن.

العيد مناسبة فريدة، وليست مثل غيرها من المناسبات، فهو بجانب أنه مناسبة إسلامية، هو أيضًا مناسبة اجتماعية؛ لها مذاق خاص لدى كل شخص، كما أن للعيد طقوسًا لدى كل أسرة، وفي الطبيعي أن تتشابه الأعياد رغم طقوسها لدى كل الناس، إلا أن هناك أشخاصًا يمثِّل لهم العيد أمرًا يفوق ذلك؛ حيث احتفلوا بالعيد لمدة ساعات مع أبنائهم وبعض ذويهم؛ ليستكملوا بعدها احتفالاتهم بين أربعة جدران، خلف أسوار الظلم والاستبداد، إنهم المعتقلون الذين مثلت لهم الزنزانة طقسًا خاصًّا في الاحتفال بأعيادهم.

في البداية يعود الدكتور محمود عزت (الأمين العام لجماعة الإخوان المسلمين) بذاكرته إلى عام 1965م؛ حيث حُكم عليه بالسجن عشر سنوات في محنة 1965م، وعمره وقتها 21 عامًا، وكان طالبًا في كلية الطب، ثم حُكم عليه بخمس سنوات عام 1995م.

ويقول د. محمود عزت: العيد فرحة ونعمة، أنعم الله به على هذه الأمة المحمدية، والعيد في السجون مرَّ علينا بعدة مراحل:

ففي المرحلة الأولى؛ كانت في السجن الحربي بعد اعتقالنا عام 1965م؛ حيث مر علينا فيه أربعة أعياد، ولم يكن بيننا وبين الأهالي أية صلة إلا بعد أن أشيع أن الإخوان قُتلوا جميعًا داخل السجون، وقتها سمحوا للأهالي بزيارتنا؛ حيث تمت هذه الزيارة، وكان بيننا وبين الأهالي سلكان، وبين السلكين حوالي متر ويسير فيه الجنود، فكانت عبارة عن مناداة بيننا وبين الأهل، وسمحوا بدخول بعض الملابس، وعلى الرغم من أننا إما أن نكون في الزنزانة الانفرادي أو الزنزانة الجماعية أو الطوابير؛ إلا أننا كنا نسعد بالعيد لاستشعارنا الفرحة لدى باقي المسلمين؛ حيث كان كل عيد يعقب طاعة لله سواء الصيام أو الحج.

ولم يكن أحد يستطيع أن يمنعنا من الفرحة ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾ (يونس).

والمرحلة الثانية؛ كانت في سجن "طره" عنبر الإيراد الذي كان مغلقًا علينا، وأنيسنا فيه العسل والخبز والأرز واليمك (الخضار الطري)، فإذا جاء العيد كنا نقوم بعمل تورتة، ونقدمها هدية للزنازين، وكنا نصنع التورتة من الأرز والعسل والخبز المحروق، فكنا نكبس الأرز في الطبق، ثم نقلبه على طبق آخر، ونزينه بالعسل، ثم نكتب عليه بالخبز المحروق "تقبل الله منا ومنكم وكل عام وأنتم بخير"، وهو ابتكار أدخل الفرحة على الإخوان في يوم العيد، وكان طعمها جميلاً، بفضل العاطفة المصاحبة لهذا العمل.

أما المرحلة الثالثة؛ عندما سمحوا لنا بالزيارات آخر الحبسة، وفي هذه المرحلة كان اهتمامنا الأكبر بالإخوة المتزوجين؛ حيث كنا نعد الهدايا لأولادهم وأسرهم، وندخل الفرحة عليهم يوم العيد الذي يقضون جزءًا منه معنا، وفي بعض الأوقات كانت إدارة السجن تسمح لنا بدخول الورش، فكنا نعمل فيها الفوانيس وحامل المصحف لنقدمه للأسر وقت الزيارة يوم العيد.

وليس ذلك فحسب فكنا نأتي بالمناديل، ونرسم عليها، وكان فارس الحلبة في هذا المجال الأخ الكريم علي نويتو، فكان يرسم لنا تحفًا لا تزال بعضها موجودة لدى الإخوان.

وقبل الخروج بوقت بسيط سمحوا لنا أن نجلس مع الأهالي ونسلم عليهم، فكنا نعد لهم بعض الأناشيد والمسرحيات الطريفة، وبعد دخولنا الزنازين كنا نكمل برنامجنا الترفيهي من أناشيد ومسرحيات، وكان الدكتور محمد بديع منشد السجن يتحفنا ببعض بين الحين والآخر، بالإضافة للأخ سعد سرور عليه رحمة الله.


فرصة للراحة

الحاج لاشين أبو شنب (سُجن في سبتمبر 1981م عن حكم غيابي بـ15 سنة، ثم أُطلِق سراحه بعفوٍ عامٍ من الرئيس "مبارك" عن كل الشخصيات السياسية، إلا أنه اعتُقل مرتين إحداهما في المحكمة العسكرية الأولى للإخوان عام 1995م والتي حكمت ببراءته) يقول: إن العيد في المعتقلات قد يكون له طعم آخر غير العيد في الحياة العامة، ففي المعتقلات يكون الإنسان بعيدًا عن الأهل والأولاد والأصدقاء؛ لكنه يكن في ألفة حانية وسط إخوانه، وهذا يجعل من العيد مجالاً خصبًا للتعارف والمحبة والتوافق في مجالات متعددة في الحياة.

والإخوان في أعيادهم يحتفلون بها احتفالاً إسلاميًّا من صلوات وأدعية، وتبادل التهاني والتحية، وترتفع الدعوات إلى الله أن يفرج الكرب، ويقضي الإخوان يومهم في هذه الألفة والمحبة، ويزور بعضهم البعض من زنزانة لزنزانة ومكان لمكان، وتأتي عليهم الأعياد أحيانًا في بحبوحة؛ حيث يأتي ذووهم في زيارات استثنائية، وهذا يرسم لونًا من الراحة والطمأنينة.


تهنئة الضباط

برنامج يوم العيد مختلف؛ هكذا قال الدكتور محمود غزلان (عضو مكتب الإرشاد)، والذي حُكم عليه بالسجن 5 سنوات في قضية أساتذة الجامعات عام 2001م، مضيفًا: "إننا في يوم العيد نستيقظ قبيل الفجر لنصليه، ونتأهب لصلاة العيد، وبعدها كنا نقوم بالدوران على ضباط وعساكر السجن؛ لنقدم لهم التهنئة بهذه المناسبة، وبعد ذلك كنا ننتظر زيارة الأهل، والتي كانوا غالبًا يشاركوننا هذه المناسبة، وبعد انتهاء الزيارة يدخلوننا الزنازين، وفي أحيان كانت الزيارات كثيرة فكانوا يقسموننا نصفين، ويقسمون المدة فيما بيننا، فبعد أن كنا نجلس مدة الزيارة كاملة مع أهالينا كنا نجلس معهم نصف المدة؛ لنعطي الفرصة لباقي إخواننا أن يجلسوا مع ذويهم، كما أن زيارة يوم العيد لم تكن مقتصرة علينا؛ فكانت لكل المساجين الموجودين في السجن، وبعد أن تنتهي الزيارة كان الضباط يسارعون بإدخالنا الزنازين في وقت مبكر؛ حتى يذهبوا لذويهم ليعيدوا عليهم؛ فكنا نقضي باقي اليوم داخل الزنازين ننعم بما جاء به الأهل من خير وفضل، ثم نكمل برنامجنا العادي في الزنازين، وفي بعض الأعياد كانت إدارة السجن تشدد علينا حسب التوجيهات الصادرة لهم، وبالرغم من ذلك كنا نحرص ألا تكدر الزيارة؛ حتى لا يحرم أحد منها، ولا نعكر الجو على أهالينا.


إسعاد الجميع

ويصف الحاج مسعود السبحي (سكرتير المرشد العام، والذي قضى ثماني سنوات خلف القضبان في محنة 1965م)؛ العيد بأنه مشاعر متوهجة وعاطفة فياضة بين الإخوان، مضيفًا أن المسلمين أكرمهم الله بعيدين؛ عيد الفطر وعيد الأضحى، ينعمون فيهما بالمتعة والسرور الحلال، فقد أكرمهم بعيد الفطر بعد أن أكرمهم بالصيام، ونحن نفرح بأن يسر الله لنا وأتممنا فريضة الصيام.

والعيد يلهو فيه الصغار، ويتزاور فيه الكبار، وتفرح فيه الأسر وهذه هي الحياة العادية، أما في المعتقلات والسجون؛ فالأمر قد يختلف قليلاً حسب الحال، فإذا كانت الحالة فيها شيء من البحبوحة؛ فالإخوان يقومون بأداء المسرحيات، ويقومون بالتزاور فيما بينهم، وليس ذلك فحسب، بل كان الإخوان يقومون بالمرور على باقي المسجونين؛ ليقدموا لهم التهاني بمناسبة العيد، وقد كان الإخوان يحاولون إدخال السرور عليهم يوم العيد، وعلى كل الموجودين؛ سواء ضباط وجنود السجن أو المساجين العاديين.

والهدف أننا نعمل لإعلاء كلمة الله؛ سواء كنا داخل السجون أو خارجها، ولن يكون ذلك إلا بالتعاون والتكاتف بين جميع المؤمنين لا أن يعمل كل واحد على "حدًا".


ألفة القلوب

 

ويضيف الحاج محمد نجيب راغب الذي اعتُقل بعد أحداث المنشية لمدة عامين، ثم اعتقل مرة أخرى في محنة 1965م، قائلاً: الإخوان يبدأون فرحة العيد منذ دخول رمضان؛ حيث يشمر كل واحد عن سواعده للطاعة، فإذا جاء العيد فرحنا بعبادتنا، وكان لذلك لذة في المعتقلات.

وبعد حادثة المنشية ظن بعض الإخوة أنهم سيخرجون للعيد مع ذويهم؛ لكن ذلك لم يحدث فاجتمعت قلوب الإخوان رغم ما هم فيه من محن يُعيِّدون على بعضهم البعض، ويرسم كل واحد البسمة على وجه أخيه، ويخفف عنه بعده عن أولاده خاصة الإخوة المتزوجين، وكان قادة الإخوان يجتهدون في إدخال السرور على بقية إخوانهم في هذا اليوم.

وكان برنامجنا في هذا اليوم يبدأ بصلاة الفجر كعادتنا، ثم نتوجه لصلاة العيد، وبعدها نقدم التهاني للجميع، ثم نكمل برنامجنا اليومي؛ خاصة أن الزيارات ظلت ممنوعة عنا فترة طويلة، وكنا نوقن أن الله يرعى أولادنا وذوينا في الخارج، ومن أجل ذلك لم نشعر بحزن، بل شعرنا بفرحة العيد كأننا بالخارج.


خطبة العيد

أما الدكتور محمد عماد الدين (أحد قيادات الإخوان بالقليوبية) فقد فتش في دفتر ذكريات العيد قائلاً: من أسعد لحظات حياتي التي مررت بها، ولا أستطيع أن أنساها طوال حياتي؛ هو ذلك اللقاء الذي جمعني بأستاذي ومعلمي الشيخ عز العرب فؤاد حافظ من الرعيل الأول للإخوان، وأحد قيادات الإخوان التاريخيين بالمحافظة، حينما توجهت لزيارته في سجن مزرعة "طره" نوفمبر عام 1981م خلال عيد الفطر، والتقيت معه الشيخ عبد المتعال الجابري، وكنت في هذا الوقت طالبًا في الجامعة، وقد أحضرت له بعض الفواكه والحلوى والفطائر التي جهزتها والدتي من أجل هذه الزيارة، فكان من اللقاءات التي لا تُنسى، والتي ثبتتني على طريق الدعوة، مضيفًا أنني في كل عيد بعد أداء صلاة العيد كنت أتوجه إلى زيارة أستاذي الشيخ عز العرب -رحمه الله-، ثم نقوم بزيارة أسر الفقراء، ونقدم لهم الهدايا والمبالغ المالية، فكنت أسعد كثيرًا بهذه الجولة، وأحرص عليها دومًا.

ومن الأعمال التي أسعدتني وتسعدني دائمًا، وأحرص عليها منذ أكثر من 20 عامًا؛ هي لقاءاتي بإخواني على الغداء في كل عيد، فيهنئ بعضنا بعضًا، وتمر علينا ذكريات وحكايات وقصص دعوتنا المباركة في جو من الحب والأخوة التي تغمرنا، وتملأ قلوبنا فرحة وسعادة.

وأذكر عندما مرَّ عليَّ عيد الأضحى في سجن مزرعة "طره" في ديسمبر 2005م، وكان عددنا 250 أخًا من 9 محافظات مختلفة، وكان الإخوة في حالة شغف لأن يُفرج عنهم قبل العيد، فكنت أتحدث إليهم دائمًا لإسعادهم وتبشيرهم بالخروج، فلما جاءت ليلة العيد دون الخروج أقمت حفلاً كبيرًا من أجل إسعادهم، وخطبت فيهم خطبة العيد في اليوم التالي، وكانت من أسعد اللحظات التي مرت عليَّ.


قصيدة الأستاذ جاد

ويحكي الدكتور هشام الصولي (مسئول المكتب الإداري لإخوان الإسماعيلية) ذكرياته مع العيد في سجن مزرعة "طره" عام 2000م قائلاً: كان معنا مجموعه كبيرة من الإخوان من أماكن مختلفة، فأقاموا حفلاً كبيرًا، به فقرات إنشادية قام بها إخوان أسيوط وبعض طلاب جامعة القاهرة، وقام أخ اسمه الأستاذ جاد، وكان متميزًا في إلقاء الشعر، وغمرنا بقصائده العذبة الرقراقة، إلى جانب العديد من الاسكتشات التمثيلية الرائعة التي أضفت على هذا سعادة بالغة.

وفي الزيارة كان يأتي لنا الأهل والأولاد بالهدايا، وكنا نحرص على مفاجأتهم؛ حيث كنا نشتري لهم الهدايا، ونقدمها لهم، وكان معنا أخ يعمل في مجال تجارة لعب الأطفال، وكان يجهز لنا اللعب والهدايا؛ لكي نقدمها لأطفالنا، ونضفي جوًا من السعادة والسرور على أطفالنا، كما كنا نقدم لهم بعض الهدايا اليدوية التي كانت تُصنع داخل السجن من العقود والميداليات.

وأشار إلى أنه من المواقف التي أسعدتني أيضًا عندما زارني في العيد خال لي، وكان لواءً متقاعدًا في الجيش، وعمره 80 سنةً، وبالرغم من أنه كان من قيادات الجيش، فلم يأبه لأحد وزارني في السجن؛ مما أسعدني كثيرًا، موضحًا أنه لا ينسى أيضًا جولاته بعد صلاة العيد لتهنئة الإخوان، فكنا نلتقي عند الشيخ علي رزة -رحمه الله- في مكتبته، والذي كان يحضر إليه جميعهم من الكبار والشباب، ونتبادل التهاني، فكان من أسعد اللقاءات، ثم بعد ذلك نتوجه إلى أهلنا وآبائنا وإخواننا لتهنئتهم بالعيد.