عامر شماخ

فتح ادعاء رئيس (جمعية الأورمان) بأن ليس فى مصر فقراء، الباب لطرح هذا السؤال، وكان الرجل -وهو لواء ملتح- قد أقسم إنه لا يوجد فى مصر فقير واحد -وقد كذب؛ فإن غالب المصريين الآن فقراء، بل سمعت من أثق به يقول إنه يكفل حالات -وهى ليست قليلة- لا تجد قوت يومها، يمنعها الحياء من السؤال. أما اللواء فقال ما قال نفاقًا؛ واستخفافًا بنا وكذبًا علينا..

إن أول شىء فعله العسكر بعد انقلابهم الدموى فى 2013 هو التحفظ على الجمعيات الأهلية فى عموم البلاد، وكانت تقوم بدور خدمى عظيم، يديرها أمناء، خبراء فى أعمال البر، يثق بهم المتبرعون وأصحاب الأموال، رأى العسكر أنها تسحب البساط من تحت أرجلهم؛ فأغلقوها على الفور ومن بين الأماكن التى أغلقت وقتها وحدات الغسيل الكلوى، والحروق، والأورام ومقار إيواء اليتامى وغيرها.. لتُضم إلى جمعيات كبرى أوكلوا إدارتها إلى زملائهم أمثال هذا اللواء الذى استغاث لما بدأت مقاطعة المصريين للجمعية فقال مؤكدًا كذبه: إن تلك المقاطعة سوف تحرم 2 مليون أسرة فقيرة من أعمال البر. أين كان الـ(2 مليون أسرة) إذًا عندما قلت نفاقًا إنه لا يوجد فى مصر فقير واحد؟!

والسؤال: أين تذهب مليارات التبرعات من أموال زكوات وصدقات المصريين؟ فى حين تزداد مساحة الفقر والمرض كل ساعة؟ إن ما ينفق على إعلانات هذه الجمعيات عبر وسائل الإعلام المختلفة يثير العديد من التساؤلات، ويلقى بالتهم على من يتولون إدارتها. فهذا الحجم الكبير من التسويق لا يتناسب أبدًا مع حجم أعمال هذه الجمعيات ورقعة انتشارها؛ إلا أن تكون (سبوبة) لسرقة أموال المتبرعين بشكل رسمى؛ فمعلوم أن من بين كل مائة جنيه من أموال التبرعات لا يصل منها سوى 45 جنيهًا إلى المستحقين، وتلك لا تسلم أيضًا من السطو، أما الـ(55 جنيهًا) الباقية فتذهب إلى تلك الإعلانات، والعمولات، والإداريات، واللجان إلخ تلك الأبواب الحرام التى لها خبراؤها ومجرموها الذين يستطيعون -بسهولة- تقنينها؛ فى ظل نظام يحمى سرقاتهم، بل يحرضهم على هدم ما تبقى من هذه الجمعيات..

ولا أظن فى ظل تلك الأجواء السياسية الفاسدة تستطيع جهة رقابية الاقتراب من هذه الجمعيات، خصوصًا إذا كان على رأسها لواء، وتلك مصيبة إذ كيف يتم معرفة الوارد والمنصرف، وكيف يطمئن المتبرع إلى أن تبرعه قد وصل بالفعل إلى من رصده له؛ من ثم على الجميع المطالبة بالتحقيق فى ميزانيات هذه الجمعيات، ومراجعتها من جهات محايدة، وإعلان أرقامها على الملأ، ساعتها ستظهر كوارث، وسوف يجد المتصدق المخلص أنه قدم صدقته فى المكان الخطأ وللأيدى غير الأمينة..

لقد قادنى القدر إلى إحدى الجمعيات الكبرى؛ لعلاج مريض سرطان فى قسمها الاقتصادى؛ فرأينا الفساد (عينى عينك)؛ رأينا مكانًا يتاجر بآلام الناس، من رئيسه حتى أصغر مرءوس، ورأينا استغلالاً وسوء معاملة لا تليق بمكان خيرى، فما استطعنا استكمال العلاج بهذه الجمعية منعًا لاستنزاف أموالنا فى أكاذيب طبية متعمدة وبعدما أكد لى أحد العاملين بالمكان أن الأقسام المجانية بعدما أفلستها السرقات وانسحب المتبرعون باتت تعانى؛ فكان من بين الحلول مضاعفة أسعار خدمات القسم الاقتصادى حتى صار أغلى من الاستثمارئ؛ ولذا صرنا نسمع -كل يوم- فى هذا المكان وغيره عن مرضى بالمئات يرفضون استقبالهم بحجة عدم وجود أسرّة، والحقيقة أن الأسرة موجودة لكن لا يوجد دعم، بعدما تم تخريب المكان بالسرقة وانفضاض المتبرعين..

وإنى أرى أن تلك قضية غاية فى الخطورة؛ إذ إنها لا تمس الجانب الرقابى فقط على هذه المؤسسات، إنما تمس جانبًا آخر وهو جانب التبرع والوقف، فمن الواضح أن كثيرين الآن يمتنعون عن إخراج أموالهم لتلك الأماكن المشبوهة، وليس أمامهم أماكن أخرى يثقون بها؛ فبذلك تم تدمير قطاع البر الرئيس فى المجتمع. فماذا نحن فاعلون؟

أتصور أن يوجه الدعاة أهل الخير إلى الطرق العملية لإخراج ما بأيديهم إلى من يستحقون بعيدًا عن هذه الجمعيات، أو أن يستحدثوا آليات بديلة تكون فى مأمن من ملاحقة العسكر العلمانيين الذين لا يريدون برًا ولا خيرًا للمجتمع، إنما يريدون أن يرتبط هذا الشعب بكراسيهم، ويا ليت لديهم شيئًا يقدمونه. إنهم لا يقدمون سوى الاستبداد مقترنًا بالغلاء والبلاء. حسبنا الله. 

 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر