10/12/2008

المقالة الثانية عن تجربة الاخ الكريم الكتور ممدوح المنيرداخل معتقلات سلخانة الداخلية فى زمن الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان ...

ومع استكمال الرحلة الصعبه

 

فيشة !!

مشكلةعويصة إحتاجت منى لكثير من المفاوضات بذلت خلالها الكثير من الوقت و الجهد، كانت تشبه فى فصولها المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ، طرف قوى و باطشو طرف آخر ضعيف لا يملك سوى التمسك بالمبدأ و الأمل ، كنت أضحك كثيراعندما تمر مرحلة من مراحل المفاوضات و التى كانت دائما ما تنتهى بالفشلحتى رضيت بالأمر الواقع أو بمعنى آخر تعاملت معه .
فى أحد الأماكن التىنقلت إليها لم يكن بالزنزانة مصدر للكهرباء و إذا سألتنى فيما حاجتك إليهاقلت لك أهم إحتياجين هما الإنارة و تشغيل سخان كهربائى من الطوب من أجلإعداد الطعام ، إستغرقت المفاوضات منى نحو شهر و نصف و لم أصل إلى نتيجةرغم أن كافة زنازين الجنائيين تحتوى على مصدر كهربائى ، لذا كنت أتناولطعامى بإستمرار باردا أو معلبا ، حتى الأكل الذى كان يأتينى فى الزيارة منالأسرة مجمدا حتى لا يفسد من طول الطريق كنت أتناوله كما هو دون تسخين رغمضرر ذلك و فى بعض الأحيان أضطر آسفا للتخلص منه
كنت أطالب أثناءالمفاوضات مع الإدارة بالمساواة مع المجرمين من القتلة و مروجى المخدرات والمغتصبين و لكن لا حياة لمن تنادى ، أما مبعث ضحكى كما قلت سابقا ، فهونجاح النظام فى النزول بسقف طموحات معارضيه من المطالبة بالديمقراطية والحرية و القضاء على الفساد و الإستبداد إلى مجرد تركيب فيشة !! و فشلتحتى فى ذلك !! ، لكن على ما يبدو أننى أعانى من مشكلة شخصية مع الكهرباءففى أول الحبسة كانت هناك وفرة لديهم منها – الكهرباء - شجعتهم فى كرمحاتمى على توزيعها على كافة أنحاء جسدى أما فى نهاية الحبسة فكنت أشكو منعدم وجودها و لله الأمر من قبل و من بعد .
 
 
عربة الترحيلات و الطريق إلى المجهول

 
من حولك الذى تتركه ورائك تحاول إلتماس السبيل واستكشاف المجهول الذى يفصلك عنه ساعات معدودة .
كان النظر من شباك العربة لحظة فى غاية الألم ، هى عربة ليست كباقى العربات فعادة عندما يستقل أحدنا سيارة يعرف جيدا أين يتجه و طبيعيا أن يكون بإختياره !
هنا نحن نتحدث عن واقع مختلف فسيارة الترحيلات و جدت لأمور كثيرة كما أعتقد :
أولاها إشعارك أنك تسير دائما إلى المجهول فأنت تتحرك إلى جهة لا تعلم موقعها حيث لا يخبرك أحد فى الغالب ، كما توضع عصابة على عينيك تخفى معالم الطريق و فى بعض الأحيان التى يسمح فيها بنزع العصابة تظل تنظر من شباكها الصغير إلى العالم لأنك تنظر إلى البشر و الأماكن نظرة مختلفة نظرة شوق و حسرة على فراق هذا العالم إلى عالم ما وراء الأسوار ، يالله حين أنظر إلى البشر وهم يمارسون طقوس الحياة يومية فهذا مطعم الآن أمر أمامه تكاد تصلنى رائحة الطعام منه و هؤلاء أطفال يلعبون فى الشارع و هذا أحد الأسواق التى يعج بها البشر تفاصيل تفقد من واقع المرأ و حياة تسلب لحظة وراء لحظة ، هذه وسيلة المواصلات المكدسة التى تعبر من أمامى الآن و أشعر بضيق الناس فيها ، كم أتمنى أن أكون مكانهم !! فى ضيق و لكن تحت سماء الحرية .
حين يكون الإتجاه إلى المجهول يبدأ الإنسان تلقائيا فى البحث عن القادم البعيد فيبدأ فى سؤال من معه من الحرس و عادة ما يكونا شاويش و مخبر و يبدأ التهرب من السؤال بإجابة كاذبة : لا نعلم !! ، فتظل تحاور و تناور حتى تعلم تلميحا أو تصريحا أين تتجه و قد تمضى الرحلة ألى نهايتها و تفاجئ فى النهاية بمحطة الوصول .
ثانى الأمور التى من أجلها وجدت هذه العربات هو تكدير البشر أذكر فى أول رحلة لى على متنها ، أنى قضيت فى هذا الصندوق الحديدى المتحرك من التاسعة صباحا حتى الحادية عشر ليلا فى تحرك مستمر سقطت فيها أكثر من مرة فى أرض السيارة وانقلبت معدتى و أفرغت محتوياتها إحتجاجا على سوء السائق الذى كان يتعمد أن يسير فوق أسوء الطرق و يقفز بالسيارة فوق أعلى المطبات حتى إنفكت كافة مفاصيلى إنفكاكا و مادت الأرض من تحتى فنمت فى أرض السيارة و أنا ارى مصمصة الشفاة ممن معى من الحرس حزن على حالى و كثيرا ما يثار تساؤلات من جانبهم عن طبيعة تهمتى و الظروف التى أوصلتنى إلى ما أنا فيه ليزداد أسفهم الذى لا يغير من واقع الأمر شيئا اللهم إلا كسب تعاطفهم و زيادة نقمتهم على من فعل بىَ هذا .
و لا أحدثك عن الساعات التى تقف فيها السيارة فيتوقف معها تيار الهواء المتولد عن حركتها و يكون وقوفها تحت أشعة الشمس الحارقة لعدة ساعات فتبدأ عملية سلقك على نار هادئة ، أذكر أن من معى من الحرس و هم محبوسون مثلى ضاقت بهم الأرض من شدة الحر فخلعوا ملابسهم الميرى و بدأوا فى الصراخ و العويل و الطرق على الجدران مطالبين بالنجدة من شدة الحر و أنا جالس أتعجب من تصاريف البشر و إختيارتهم فى الحياة ما الذى يجبر هذا الرجل على العمل فى هذه الوظيفة ؟!! التى تعسر الحياة و لا تيسرها فى مقابل ملاليم لا تغنى و لا تسمن من جوع ، المهم إنتهت هذه الرحلة المقيتة بعودتى من حيث أتيت و لكنى خرجت منها محمولا على الأعناق من شدة الإعياء !! بعد أن دخلتها على قدمى ّ .
ثالث هذه الأمور التى وجدت من أجلها هذه السيارة ، هى إشعارك بأنك مهم جدا للنظام !! و كنت أضحك كثيرا مما أرى وأشاهد من جحافل القوات الخاصة التى تصاحب السيارة و تسير خلفها !! كنت أقول لبعض الضباط الذين يصطحبونى فى هذه الرحلة أنى لم أكن أعلم أنى بهذه الأهمية ، بل كنت أقسم لهم بأنى لو وقع على ّ عقوبة ما ووصف لى الطريق إلى السجن فسوف أذهب إليه لأسلم نفسى ليس شجاعة و لكن من المجنون الذى يهرب من تطبيق حكم عليه فى مصر و يعيش بين أهله فى جحيم و يطارد فى كل كمين ، اللهم عليك بهم أجمعين قل آمين .
 
قوطة و دماغه العالية !

 
أول مرة رأيته فيها كان يقف أمامى و الدماء تغطى معظم جسده و يقف فى قبالته ثلاثة من رجال الأمن يحاولون التفاهم معه و نزع الموس الحاد الشفرة الذى يهددهم به فى حالة إقترابهم منه و إذا سألتنى لماذا هو مضجر بدمائه ؟ ، أقول لك لأنه يقوم بجرح نفسه عدة جروح ثم يتهم السجان بإرتكابها ثم يطلب العرض على النيابة للتحقيق كل هذا ليهرب من عقوبة الحبس فى هذا المكان لمدة ثلاثة أيام لأن الوضع فيها مأساوى ( الزنزانة الحمام التى ذكرتها سابقا ) و هو المكان – العنبر - الذى حبست فيه نحو ثلاثة أشهر !! و لأنه كذلك يعتقد أنه لم يرتكب مخالفة تستدعى حبسه هنا على سبيل التأديب .
أدركت فورا أنّى مقبل على أيام عصيبة و أن أوّل القصيدة كفر كما يقول المثل فمشكلتى مع كل من يدخل فى هذا المكان أمران :
أولاً أنه يدخل و هو فى أسوء حالاته ، ثانياً أنّ الكل يعتقد أنّه مظلوم و من هنا تبدأ مشاكلى ، ما أ ن يدخل قوطة – بعد أن أقنعوه بالدخول - و من على شاكلته إلا و يبدأ فى الصراخ و القرع على باب الزنزانة و الإضراب عن الطعام محدثا ضجيجا هائلا و إزعاجا بلا حدود حتى هجرنى النوم طيلة شهر و نصف و خاصة أن نوعية قوطة تفر من الواقع الكئيب الذى يحياه فى السجن إلى عالم الأحلام و لكن عن طريق المخدر الذى يتعاطاه و المشكلة فى هذا المكان أن المخدر لا يصل إليهإلا تهريبا !! و عندما تنتهى مفعول الجرعة التى أخذها و لا يجد جرعة جديدة يبدأ فى فقد إتزانه و يبدأ فى الصراخ و كأنه أصابه مس من الجنون و يظل يقرع الأبواب قرع طبول الحرب ، لا يتعب و لايمل من القرع على الباب يفرغ فيه - الباب - كل ضيقه و غضبه و سخطه و لا يدرى أو يدرى أنه يفرغه حقيقة فى أُذنى أنا لا فى أُذن السجّان ، الذى لايستجيب لصرخاته و لا آهاته لأن السجّان تعود عليها فلم تعد تحرك فيه ساكنا ، مشكلتى أن الأمر لم يكن يقتصر على قوطة وحده فربما تعب أو يأس و لكن هناك أيضا أقرانه من ( زاوية ، عقب ، جلابية ، الصغيِر !! ) نفس الضجيج و ربما حاول بعضهم الإنتحار أو جرح نفسه كل هذا على مدار اليوم و الليلة و كأنهم فى وردية لإزعاجى و رفع ضغط دمى رغم أن لست مريضا بالضغط !.
كنت أشاهدهم و أتأمل و أتعجب من نوعيات البشر التى أراها أمامى ، لا يعرفون من الحياة إلا أسوءها ( المخدر ، البلطجة ، الجهل ، القسوة ) هم نتاج مجتمع و دولة تحلل من حاضره و ماضيه و مستقبله ، لا ترى هذه الشخصيات إلا فى صفحة الحوادث عادة أو فى العشوائيات أو هم يسرقون حافظة نقودك !! لا أنكر أنى قابلت بعضا منهم لا يزال فيه بقايا من الإنسانية فلا يوجد إنسان شر مطلق أو خير مطلق .
يا زميل !! هكذا كانوا ينادون على َ و يطلبون منى أن أساعدهم فى إدخال المخدر أو السيجارة إليهم و يعتبرون هذه المساعدة من الرجولة و ( المجدعة ) و لأنى بالطبع أرفض فيتحول الغضب و السخط من السجّان إلىَ أنا !! و هنا يبدأ الجحيم بعينه ضجيج متعمد لإطارة النوم من عينى ، شتائم لما أسمع بها إلا فى جلسات التحقيق ، كل هذا طيلة اليوم طلبت من الأهل أن يشتروا لى سدادة للأذن و لم تفلح ، طلبت حبوب منومة حتى أنام و لو ساعة و لم تفلح كذلك ، أضربت عن الطعام مرتين و لم يفلح الإضراب كذلك ، طلبت العرض على النيابة ، هددت بتصعيد الأمر حقوقيا و إعلاميا و لم أقابل إلا بضحكات ساخرة أخيرا جاء التدخل من الله ، الذى عودنى كل جميل و الذى كان يغمرنى بفيوضاته و رحماته و كان دائما يتدخل حين أفقد القدرة على المقاومة و أبدأ فى الإنهيار و تنقطع بى أسباب الأرض إنقطاعا من القلب و العقل و الوجدان و لهذا قصة أخرى بإذن الله .
 
إذا كان الله معك فمن عليك ؟
 
إنتهينا فى الفقرة السابقة – قوطة و دماغة العالية - عند محنة الضجيج الهائل الذى عشت فيه فى عنبر التأديب و الذى أرق مضجعى و نغص علىّ حياتى فكان بلاءاً فوق البلاء ، أوشكت فيه مقاومتى على الإنهيار و استنفذت كافة سبل الإحتجاج كما نوهت من قبل ، فأُغلقت دونىَِ الأبواب و بلغت الروحُ الحلقوم ، حتى جاءنى الفرج من حيث لا لا أنتظر !.
 أحب أن أشير بداهةً أن ما حدث معى لم يكن لأهليّتى لذلك فأنا أعلم الناس بضعفى و تقصيرى و لكن الأمر كما يقول علماء القلوب أن هناك صنفين من البشر يستجيب الله لهما و يحيطهما برعايته بغض النظر عن تقصيرهما فى حقه ، ألا وهما المضطر يتدخل المولى برحمته التى وسعت كل شىء ليفرج كربه و الآخر هو المظلوم و الذى أقسم الله بنفسه أن ينصره بعدله و لو بعد حين ، لذا أرجوا أن يفهم كلامى من خلال هذا السياق و اللهُ مطلعُ على السرائر .
حين كنت أعانى ما أعانيه إستبدت بىَ الظنون و دخلت علىّ هواجس الخوف و الرعب و اليأس و أحسست أنى مقدم على مرحلة صعبة هذه أولُ بوادرها ، حتى فُتح علىّ الباب و أنا على هذه الحالة و أدخلَ السجّان فى الزنزانة المجاورة لى وافداً جديداً و أمسكت قلبى بيدىّ و أخذت أتسائل من أى نوعٍ هو ؟ من أمثال قوطة و أقرانه أم هادىء النفس ؟ و ظللت متوجسا غاية التوجس ، أنتظر ما سيحدث ، تمر الساعات على ّ بطيئة متثاقلة كنت أنتظر فى تلهف أن أرى أو أسمع ردود أفعاله بعد ساعات من الحبس و كان وقتها قد دخل فى نوم عميق منذ أن دخل و بينما أنا على هذه الحالة ، إذا به ينادى يستيقظ و ينادى علىّ : يا أستاذ ، قلت لنفسى قبل أن أرد عليه و بدأت المشاكل ! سوف يطلب منى طلبات لا أستطيع أن ألبيها له و هنا تتكرر مأساتى .
لكنى و جدته يكلمنى فى وداعة و هدوء و يطلب التعرف على ّ فعرفته بنفسى فى إقتضاب فإذا به يواجهنى بهذا الطلب العجيبالغريب !! ، قائلا لقد جاءنى فى المنام من يقول لى ( آية 608 ) فهل تعرف هذه الآية ؟ ! ، فقلت له فى إندهاش عظيم لا أعرف آية فى كتاب الله تحمل هذا الرقم ، فقال لى فكّر فهذا الخاطر ألحّ علىّ كثيراً و أنا نائم و لا أجد له تفسيراً !! ، فأحسست عندها أنى إستعد لإستقبال رسالة ما ساقها الله إلىّ على لسان هذا الرجل الغريب الذى لم يدخل إلا منذ ساعات معدودة ، فتحت المصحف ووقعَ فى قلبى وعقلى أن هذه الآية ربما تكون هى مجموع الآيات التى تسبقها فى المصحف و فعلاً بدأت فى جمع عدد آيات السور من أول الفاتحة حتى و جدت الآية ( 608 ) هى الآية السابعة عشر فى سورة الأنعام ، قال تعالى ( و إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو و إن يمسسك بخير فهو على كل شىءٍ قدير ) و ذهلت و سكت و بكيت ! لقد وصلت الرسالة ، واضحة ، جلية ، منبهة ، موجهة ، شافية !!.
 إن ( يمسسك) ( الله ) بماذا ( بضر ) ( فلا كاشف له (  إلا ( هو ) ، أخذت أرددها و كلما رددتها أكثر بكيت أكثر ، الله وحده هو النافع و هو الضار، بيده كل شىء و إليه يرجع كل شىء ، بيده الحركة و السكون و الأمر و النهى ، فوجهت و جهى إليه ، أدعوه دعاء المضطر المظلوم ، أبثه شكواى و أقول له يا من جعلت النار برداً و سلاما على إبراهيم إجعل حبستى هذه أمناً و سلاما علىّ و كان بعدها الهدوء التام و السكينة والطمأنينة ، نعم جاءنى بعدها نزلاء جدد و لكن بلا صوت و طلبات يقضون معظم أوقاتهم نُوّما حتى نسيت وجودهم بجوارى أصلا !! ليس هذا فحسب بل عشت فى سلامٍ نفسىّ عجيب و أخذ الوقت يمضى بى بسرعة عجيبة لا أشعر معه بلحظة ملل رغم وحدتى !! ، حتى قلت لأحد الضُباّط بعدها أننى أشعر أنى أعيش فى حلم !! ما أن يبدأ اليوم حتى ينتهى !!.
 ما أجمل أن تشعر أن الله معك يحفظك و يرعاك ، فإذا كان الله معك فمن عليك ؟ و إذا كان عليك فمن معك ؟! ، لقد إستشعرت حينها ولازلت بحياء شديد من الله ، سبحانه الودود الكريم الرحيم بعباده ، عودنا منه كل جميل ، لو عاملنا بعدله لخسف بنا و لو حاسبنا على تقصيرنا و ما جنته و تجنيه يدانا لجعل عالينا سافلنا و لأرسل علينا طيرا أبابيل و لكنه الرؤوف الرحيم .
 و ذهب الرجل كما جاء بلّغ الرسالة و ذهبت معه كل متابعى و عشت بقية أيامى كما أنا وحيدا و لكن فى هدوء حتى أشرفت أيامى فى هذا المكان على الإنتهاء و ما هى إلا ساعات معدودة و أحصل على حكم الإفراج السادس و أنا خائف أن يلحق بسابقيه و لا ينفذ !! و لكن تتأزم الأمور من جديد و ندخل فى محنة جديدة حتى يأتى الفرج من جديد و بشكل لم يخطر على قلب بشر !!.