إن من أكثر المهام صعوبة في هذا الزمان تربية الأبناء، ذلك أن التربية تواجه تحديات جمة تجعل الجهود المبذولة في هذا الباب مهددة بالفشل، فالتكنولوجيا الحديثة التي أسرت الأبناء وجعلتهم يقعون في حبائل حبها زودتهم بقيم مغايرة لتلك التي يتلقونها في بيوتهم وعلى أيدي آبائهم وأمهاتهم، لقد جمعتهم بكل المتناقضات في هذا العالم، فهم يسمعون ويقرؤون ويشاهدون أنماطا من البشر مختلفين في أفكارهم وسلوكياتهم عما يعرفونه في أوساطهم الأسرية، وأخطر ما في الأمر قيم الإباحية والعلاقات المنفتحة تماما بين الجنسين، مما يجعل توجيههم في هذا الباب مهمة صعبة للغاية.


إن تربية الأبناء على القيم الفاضلة في مجتمع متغير منفتح على الآخر مهمة محفوفة بالمخاطر، مما يحتم على الوالدين دقة الملاحظة وديمومة المتابعة لتنقية فكر أبنائهم مما علق به من شوائب أثناء جولاتهم التكنولوجية على النت أو من خلال الهاتف المحمول، علينا ملاحظة أي تغير في السلوك أو في الفكر وسرعة المعالجة للسلبي منها وحسن التعزيز للإيجابي، وهكذا نضمن مواكبتنا للتغير في خارطة سلوك الأبناء اليومية مما يعزز دورنا في توجيههم وترشيد سلوكهم.

إن التربية على القيم من أكثر العمليات التربوية دقة وصعوبة، ومن هنا فإن الممارسة لا بد أن تستند إلى معرفة نظرية جيدة ومسبقة بملامح هذه القيم وأساليب غرسها وتعزيزها من قبل الوالدين، وأن يتفق الاثنان على ذلك حتى لا يشعر الابن بالاختلاف بينهما، فيضيع أثر التوجيه ويضطرب الأمر على الولد فلا يدري ما المطلوب تحديدا هل هو ما تقوله الأم، أم ما يفعله الأب.

ولا بد من إدراك أن القيم لها عدة مراحل لتصبح في النهاية سلوكا مرغوبا به، سنذكرها تباعا ومن خلال قيمة العطاء كمثال عملي على تطبيق هذه المراحل:

أولا: التعريف بالقيمة وذلك بشرحها وتوضيحها والتدليل عليها من الكتاب والسنة ومن أعمال السلف الصالح ممن ظهرت على جوارحهم واشتهروا بها.

وعندما نطبق هذه الخطوة على قيمة العطاء علينا أن نوضح معناها ابتداء، فالعطاء هو أن تبادر بتقديم كلّ ما تستطيع لمن تحبّ، لتعطيه رسائل مباشرة وغير مباشرة بين الحين والآخر، تعلمه بمدى مكانته عندك، ومدى تقديرك وحبّك له، العطاء يحثّ أفراد المجتمع على إظهار الاهتمام لما يحيط بهم؛ ومدّ يد العون للغير، والعمل على تحقيق احتياجاته.

للعطاء أنواع مختلفة؛ العطاء الماديّ، الكلاميّ والمعنويّ المجرّد. كذلك هناك أشكال مختلفة للعطاء؛ مباشر أو غير مباشر، تحوي قيمة العطاء مسؤوليّة اجتماعيّة، وشعورا بالواجب يمليه الضمير،هذا الشعور الذي ورد في الأثر وصفه: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، نتألم لألم الفقير ونشعر بضيق المريض نتعاطف مع الضعيف كل ذلك يستدعي عطاء محددا منا إما معنوي أو مادي بحسب إمكانياتنا وقدراتنا ومسئولياتنا.

يجب أن نمثل العطاء بالشجرة التي تعطي الناس الثمر مع أنهم قد يرمونها بالحجر لكنها لا تعطيهم إلا الثمر الطيب وهكذا يجب أن يكون المسلم.

يجب أن نعلمه أنه يؤثّر على المعطي حيث يمنحه تجربة يتخلّلها شعور بالنجاح، والرضا يمنحه الشهور بأنه صاحب إرادة قد انتصر على بخل نفسه وشحه وحبه للمادة.

علينا أن نركز في وعيه أن الله تعالى يعطي المعطي أضعافا كثيرة: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} [البقرة:245].

علينا أن تقص له من قصص العطاء لدى الصحابة كأبي بكر رض الله عنه الذي أنفق كل ماله، وعمر رضي الله عنه الذي أنفق نصف ماله، وعثمان رضي الله عنه الذي جهز جيش العسرة …الخ.

ثانيا: التدريب عليها وذلك بابتكار مواقف متعددة للتذكير بها وتعزيزها في نفس المتربي ونذكر هنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “مروا أولادكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر”، فالمطلوب أن نأمر أبناءنا بالصلاة لمدة ثلاث سنوات قبل أن نحاسبهم على الالتزام بها أي يجب علينا أن ندربهم عليها ونأمرهم بها لمدة ثلاث سنوات؛ وذلك حتى يتعود عليها الأبناء وتصبح جزءا من شخصيتهم.

وهنا يكون التدريب على العطاء للأطفال منذ الصغر فيمكن للأب مثلا أن يعطي الابن المال ليضعه في صندوق التبرعات في المسجد، ويمكن أن تعطيه قلمي رصاص ليعطي القلم الآخر لطفل فقير في الصف، وعلينا أن ندرك ونحن نعوّد الأطفال في السن المبكرة على العطاء أنهم لا يحبون مشاركة الغير في ما يملكون من ألعاب أو أشياء حتى سن السادسة، فلا نضغط عليهم قبل هذا السن لكن من خلال مكافأتهم على أي عطاء يقدمونه من أنفسهم فتتعزز لديهم هذه الصفة منذ وقت مبكر فإذا كبروا أصبحت صفة لازمة لهم.

 ثالثا: مرحلة التبني وأن تصبح القيمة جزءاً من شخصية الأبناء، فيحبوها ويتعاملوا بها، وحتى تصبح كذلك علينا مناقشتهم بها ودحض أي شبهة قد تعلق في أذهانهم تجاه هذه القيمة، مثلا قيمة العطاء علينا أن نناقشهم في آثارها على حياتهم والفوائد التي يمكن أن يجنوها إذا كانوا من الصادقين، ومناقشة فكرة أن العطاء لا ينقص مما لدى الإنسان بل ينميه ويزكيه ويباركه، وأن المعطي تطمئن نفسه ويحبه الآخرون بحيث يصبح العطاء من قيمهم الشخصية لا يتخلون عنه مهما كانت الظروف.

رابعا: العمل بهذه القيمة وتبنيها في الحياة ودعوة الناس إليها فإذا تبنينا القيمة فلا بد أن نعمل بها وإلا كانت هناك مفارقة بين ما نؤمن به وما نفعله. فمن آمن بالعطاء لا بد أن يمارسه في كل شئون حياته، وهنا لا بد من المتابعة للمواقف التي يقع فيها الأبناء بالبخل ومناقشتهم في سبب عدم الالتزام بقيمة العطاء وإعادتهم إلى القيمة التي تعلموها منذ الصغر. وإن الدعوة إلى القيمة تكون في غالب الأحيان دليلاً على تبني القيمة من قبل الشخص الداعي لها، لذا لنعلم أبناءنا أن يكرهوا البخيل ويحبوا الإنسان المعطاء، قد نبخل نحن الآباء أحيانا لذا علينا أن نتحلى بالصبر إذا انتقدنا الأبناء لأننا خالفنا ما علمناهم إياه من القيم والأخلاق الفاضلة؛ لأن هذه الانتقادات من الأبناء دليل على نجاح التربية في الوصول إلى الهدف المطلوب وهو أن يتبنى المتربي القيمة المطلوبة ويدافع عنها، وإذا أصررنا على مخالفة ما قلناه وما علمناه فلا قيمة لكل جهودنا التربوية التي بذلناها في تعليم القيم الفاضلة والتدريب عليها.

إن كوننا قدوة لأبنائنا يحتم علينا الانتباه إلى سلوكياتنا وعدم مخالفة أفعالنا لأقوالنا، وأن يكون لدينا الجرأة للرجوع إلى الحق عند التذكير به، ولو كان من أصغر الأبناء؛ وإلا فقدنا مصداقيتنا وخسرنا جهودنا في التربية، والأهم فقدنا قدرتنا على التوجيه والتأثير في الأبناء إلى الأبد.

إن التربية عملية شاقة مستمرة متراكمة تراعي المتغيرات وتنتبه إلى النفسيات وخصائص كل مرحلة عمرية، فتوجيه الأطفال ليس كتوجيه اليافعين، وتوجيه اليافعين ليس كتوجيه الشباب البالغين وهكذا. فلكل خصائص علينا مراعاتها عند التعامل معه بما يحقق الهدف المرجو من التوجيه، وإلا أصبح التوجيه عبارة عن أوامر جافة لا روح فيها، والأوامر الجافة دائما تدفع الأبناء إلى الرفض والعصيان أكثر مما تدفعهم إلى الفهم والتطبيق.

هذه بعض الأسس التربوية التي نحتاج إليها في غرس القيم المختلفة في أبنائنا تدعونا إلى مزيد من الفهم لتعقيدات التربية في ضوء متغيرات هذا الزمان، وإلى مزيد من العزم في الأخذ بكل مفيد في هذه العملية الشاقة التي أصبحت من أصعب الأعمال على كل العاملين في حقل التربية والتعليم.

المصدر :بصائر اون لاين