د. فرج عبد الحليم
إن شريعة الله تعالى في أرضه
والتي جعلها وسيلة لتحقيق الخير للبشرية كلها-
لا تصطدم بحال من الأحوال مع المشاعر الإنسانية والفطرية،
والتي منها فطرية حب الأوطان،


فالإسلام لا يصطدم مع الوطنية ولا يتعارض معها؛ بل بينهما تعاضد قويّ، صورته أن الإسلام يفرض على أتباعه الحب والتفاني في خدمة الأوطان، والفخر بالانتساب لها -لكن ليس فوق الانتماء للدين- ومن ثمّ فقد سمح الإسلام بأن يحتفظ الذين دخلوا في الإسلام بألقابهم الإقليمية تحت مظلة ورداء الإسلام، كصهيب (الرومي) وسلمان (الفارسي) وبلال (الحبشي) وسعد (الأنصاري) وعبدالرحمن بن عوف (المكي المهاجريّ) والطفيل بن عمرو (الدوسي اليمنيّ) وأبو ذرالغفاريّ


. ولعظمةِ محبة الوطن في القلوب إذ بالقرآن الكريم
يربط بين قتل النفس والإخراج من الوطن وجعلهما في كفّة واحدة لا ينفصلان كما في سورة النساء، في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]. والناس في حب الوطن مذاهب وتوجّهات؛ فمنهم من جعل الوطنية شعارًا كلاميًّا لا فعليًّا، ومنهم من اتخذها وسيلة لترويج بضاعته الزائفة، ومنهم من جعل الوطنية درُجًا له للصعود نحو المناصب والسلطات والمسؤوليات. ولــذا كان لزامًا علينا أن نقف مع الحق العملي لحبّ الوطن، وقد سبق بنا الحديث في الخطبة الماضية عن دور الإسلام في البناء والتعمير،


وقلنا من بين الوسائل تجميع الصفوف، وتأليف القلوب، وتوحيد الكلمة من أجل بناء وطن مستقرّ.. واليوم نُفصّل القول في الحديث عن الاصطفاف الوطني بين أبناء الوطن كلّه، دون استثناء..
أولاً: فطرية حبّ الأوطان: إنّ الوطن للإنسان بيته وحياته، وبمراجعة حياة البشر وغير البشر يلاحَظ أنّ حُبّ الأوطان فطرة مركوزة في المخلوقات؛ فالحيوانات تحنّ إلى أوكارها، والطيور تئنّ إذا غادرت عُشَّها، كذلك الإنسان الذي كرّمه ربُّه يحنّ بحكم الفطرة إلى بلده ووطنه الذي وُلِد فيه ونشأ على أرضه. ودعونا نستذكر هذا الموقف الرائع للنبي الحبيب صلى الله عليه وسلّم يوم أجبره قومه –حربًا على دعوته- على ترك الوطن الذي تربّى فيه وعاش على أرضه، ماذا صنع؟ لقد تصرّف بطبيعة الفطرة البشريّة فوقف يتأسّف على خروجه من بلده؛ فعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءَ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْحَزْوَرَةِ، يَقُولُ:


«وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» قال الإمام الحاكم في المستدرك:
«هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ». فكلامه صلى الله عليه وسلّم ليس بطبيعة النبوّة والرّسالة؛ ولكن بطبيعة البشريّ الذي عاش في أرضه وأحبّهَا وعشق ترابَهَا وحزن لفراقها حزنًا كبيرًا.. فحبّ الوطن فطرة في النفس، والإنسان يتعلق بالأرضِ التي عاش عليها، وأَلِف أهلها؛ لأنها تحمل ذكرياته.

ثانيًا: الإسلام والوطنيّة: إنّ وجود الوطن في حدّ ذاته نعمة من نعم الله على عباده، كما أنّ العقوبة بالنفي والطرد والتهجير من الوطن عقوبة ونقمة شديدة على الإنسان أيًّا كان!! إنّ الدين الإسلاميّ لا يستنكر ولا يرفض حب الوطن، وأن يعيش الإنسان محبًّا لبلده؛ بل وجدناه يشجع أيّما تشجيع على حبّ الأوطان ويخلّد ذكر المحبين لأوطانهم؛ فهذا بلال لم يُعرف في تاريخ الإسلام إلا بنسبته إلى وطنه: بلال الحبشي، وصهيب الروميّ، وسلمان الفارسيّ، والطفيل الدوسيّ، فقد ظلّ كل هؤلاء بنسبتهم إلى أوطانه، ظل بلال حبشيًّا، وصهيب روميًّا، وسلمان فارسيًّا، والطفيل دوسيًّا، لكنهم ما نَسَوْا انتماءهم الأساس والأعظم إلى رسالة الإسلام، وما يتعارض هذا مع ذاك، وما طُلِب منهم لإثبات وطنيتهم للبلد الجديد أن يتنازلوا عن جنسيتهم الأصليّة!! وقد جعل الإسلام حب الأوطان من الإيمان، وإن لم يصح القول: (بأن حب الوطن من الإيمان) إلا أنّ معناه صحيح جدًّا؛ ويؤكّده تطبيق النبي وأصحابه الكرام يوم أُخْرِجُوا من مكة، وهاجروا –قسوةً من أهل مكة، وبحثًا عن أرض جديدة للدعوة- إلى المدينة..

 

ولقد كان أشد البلاء على النبي وأصحابه الاضطهاد في مكة وترك الوطن الذي عاشوا فيه!! وقد روى البخاري في صحيحه مما يدلل على مشروعية الشوق للوطن والحنين إليه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قدم من سفر فرأى دُرجات المدينة -وطنه الذي ناصره وأيّده- أوضع ناقته، أي أسرع بها.

قال ابن حجر في فتح الباري: [فيه دلالة على مشروعية حب الوطن، والحنين إليه]. وإذا كان الإسلام يشجع على حب الوطن؛ فإنّه يوجب الدفاع عن الأوطان، ولذا شُرِع الجهـاد في سبيل الله تعالى؛ دفاعًا عن الدين والأهل والوطن والأرض والعِرْض، وجُعِلَ من مات أو قُتِل في سبيل نُصْرة الحق ونُصرة إسلامه ووطنه شهيدًا في سبيل الله تعالى؛ ففي الحديث، كما عند أحمد في المسند والحديث صحيح «من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد». ولذا فإنّ من جملة الإيمان الدفاع عن الوطن واسترداد الحقوق فيه وله، ففي الحديث أيضًا كما روى أحمد والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون مَظْلَمته فهو شهيد» والحديث صحيح. ثالثًا: مِصْرُنا في القرآن وعبر التاريخ: وتبقى مصر في قلب الأوطان التي ينبغي أن تُحَبّ؛ فإذا كانت مكة والمدينة من البلاد التي يجب على المسلم أن يحبّها ويشتاق إليها، فإنّ مصرنا بلد الله في أرضه جعلها لنا كمصريين نعيشُ على أرضها، ويؤمّن ساكنها ولو غير مصريّ؛ لما لها من فضل كبير في القرآن الكريم، وفي السنة، وعبر التاريخ البشري القديم والحديث. فمصر موطن صحابة كُثُر رآهم الناس وعاصروهم في بلادنا. وهي أرض للأنبياء والصحابة 

نقلًا عن منارات ويب

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر