في خطوة جديدة تؤكد استمرار نهج "المسكنات" الذي تدمنه الحكومة الحالية في إدارة الأزمة المالية، طرح البنك المركزي المصري اليوم عطاءً لبيع أذون خزانة مقومة بالدولار لأجل عام، بقيمة 800 مليون دولار. الهدف المعلن لهذه الخطوة ليس تمويل مشروع إنتاجي أو استثماري، بل ببساطة: سداد استحقاق مالي قديم يبلغ 840 مليون دولار يحل موعد سداده غدًا.
هذه العملية، التي تتم بعائد 4.25%، تعني عمليًا أن الحكومة تقترض لتدفع، وتستدين لترحل الأزمة عامًا آخر، في حلقة مفرغة من "إعادة التمويل" (Rollover) التي تستنزف موارد الدولة وتراكم الأعباء على الأجيال القادمة. فبينما يتحدث المسؤولون عن "إدارة الدين العام"، تكشف الأرقام أننا أمام "إدارة للديون بالديون"، بلا أي أفق للخروج من النفق المظلم.
نحن نعيش "اليوم بيومه" ونورث الفقر
يعلق الخبير الاقتصادي البارز هاني توفيق على هذا النهج بلهجة حادة، معتبرًا أن سياسة "سداد الديون القديمة بقروض جديدة" هي أقصر طريق للهاوية. ويرى توفيق أن الحكومة تتعامل مع الاقتصاد بمنطق "تاجر مفلس" يحاول شراء الوقت، مؤكدًا أن هذه الاستراتيجية لا تحل المشكلة بل تؤجل الانفجار وتزيد تكلفته.
ويضيف توفيق: "عندما تقترض 800 مليون دولار لتسدد 840 مليونًا، فأنت لا تزال مدينًا، بل وتضيف فوائد جديدة (4.25%) ستضطر لاقتراضها العام القادم. هذه ليست إدارة اقتصادية، هذا ترحيل للأزمة. الحل الوحيد هو التوقف فورًا عن الاقتراض غير الإنتاجي، والتركيز على زيادة موارد الدولة الدولارية من التصدير والاستثمار المباشر، وليس من بيع أذون الخزانة التي تمثل (أموالاً ساخنة) تخرج في أي لحظة".
استنزاف للموارد وفشل في "هندسة الدين"
من جانبه، يرى الدكتور عبد المطلب عبد الحميد، أستاذ الاقتصاد، أن لجوء البنك المركزي لهذه الآلية يعكس فشلًا في ما يسمى بـ "هندسة الدين العام". ويشير إلى أن الاعتماد المفرط على أذون الخزانة الدولارية لسداد الالتزامات يضع الاحتياطي النقدي وموارد الدولة تحت ضغط مستمر.
ويوضح عبد المطلب أن "الفجوة التمويلية تتسع، والحكومة لا تملك حلولاً مبتكرة. سداد 840 مليون دولار عبر اقتراض 800 مليون يعني أننا ما زلنا في المربع صفر. الأخطر أن هذه الديون قصيرة الأجل (أذون خزانة لمدة عام) هي الأخطر على الاقتصاد، لأنها تتطلب سدادًا سريعًا، مما يربك الموازنة ويجبر الدولة على الخضوع لشروط المقرضين ورفع أسعار الفائدة لجذبهم، وهو ما يضر بالاستثمار المحلي".
أعباء تتحملها الأجيال.. والحلول "غائبة"
وتلتقط الدكتورة سالي صلاح، أستاذة الاقتصاد، طرف الحديث لتسلط الضوء على البعد الاجتماعي والمالي لهذه السياسات. تؤكد صلاح أن استمرار الاقتراض لسداد الديون يعني أن جزءًا كبيرًا من موازنة الدولة سيظل مخصصًا لخدمة الدين (فوائد وأقساط)، مما يلتهم المخصصات التي يجب أن توجه للصحة والتعليم والدعم.
وتحذر د. سالي من أن "الاستسهال في إصدار أذون الخزانة الدولارية هو بمثابة (تخدير) للأزمة. الحكومة تحتفل بأنها سددت الالتزام، لكن الحقيقة أنها (استبدلت دائنًا بدائن)، وبشروط قد تكون أصعب. نحن ندور في ساقية مفرغة؛ نقترض لنسدد، ثم نقترض لنسدد الفوائد، وهكذا دواليك. غياب الرؤية لتنمية حقيقية تدر عملة صعبة هو الكارثة الكبرى التي ستجعلنا رهينة لهذه الديون لعقود قادمة".
وفي النهاية يُجمع الخبراء على أن طرح البنك المركزي لأذون بـ 800 مليون دولار ليس "إنجازًا" كما قد يصور البعض، بل هو "إقرار بالعجز" عن سداد الديون من موارد ذاتية حقيقية، واستمرار في سياسة "التلبيس" التي يدفع ثمنها الاقتصاد المصري من استقلاله واستقراره.
...

