في خطوة تكشف عن الوجه الحقيقي لمخططات إعادة رسم خريطة المنطقة، لم يكن الاعتراف الإسرائيلي الرسمي بـ"أرض الصومال" (صوماليلاند) مجرد مناورة دبلوماسية عابرة، بل هو تدشين رسمي لمرحلة جديدة من "حرب الممرات" ومحاولات تفكيك الأمن القومي العربي من بوابته الجنوبية.

 

هذا التحرك، الذي وصفه مراقبون بأنه تطبيق عملي لنظرية "شد الأطراف" وتطويق العمق العربي، يحمل في طياته تهديدات وجودية لدول المركز، وعلى رأسها مصر والسعودية، ويمهد الطريق لهيمنة إسرائيلية كاملة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، مستغلة حالة التشرذم العربي والتواطؤ الإقليمي لبعض الأطراف الوظيفية.

 

إن قراءة المشهد بعين "الأمن القومي" تكشف أن ما يجري في القرن الأفريقي لا ينفصل عما يحدث في غزة أو جنوب اليمن أو السودان، بل هو جزء من فسيفساء "الشرق الأوسط الجديد" الذي هندسه شمعون بيريز ويطبقه نتنياهو اليوم بالنار والدم والتحالفات المشبوهة، بهدف تحويل إسرائيل من "كيان دخيل" إلى "مركز ثقل" يتحكم في شرايين التجارة والطاقة العالمية، ويحاصر خصومه في عقر دارهم.

 

حرب الممرات: "IMEC" بديلاً لقناة السويس

 

يرى السياسي أسامة رشدي أن الاعتراف بـ"أرض الصومال" هو حجر الأساس لمشروع الممر الاقتصادي (الهند – الخليج – إسرائيل – أوروبا) المعروف بـ IMEC، والذي صُمم ليكون البديل الاستراتيجي لقناة السويس وطريق الحرير الصيني.

 

فالتواجد الإسرائيلي في صوماليلاند، المطلة على خليج عدن، يمنح تل أبيب "زر التحكم" في عنق الزجاجة العالمي (باب المندب)، مما يمكنها من تأمين ممراتها التجارية الخاصة أو تعطيل ممرات الخصوم عند الحاجة.

 

 

ويشير رشدي إلى أن هذا التواجد، المدعوم بتفاهمات مع الإمارات، يفتح الباب أمام بنية نفوذ أمني واستخباري متكاملة تغطي المسافة من الهند إلى أوروبا، مما يحول الاقتصاد إلى "أداة ابتزاز سياسي" ضد مصر، التي ستجد نفسها محاصرة ببدائل جاهزة لقناتها، وأداة ضغط لرفع تكلفة أي موقف مصري معارض. هذا التحرك هو عسكرة واضحة للممرات التجارية، تحول المنطقة من ساحة تعاون إلى بؤرة صراع دولي قد تأكل الأخضر واليابس.

 

تفتيت الدول: "الدومينو" يبدأ من الصومال واليمن

 

يتفق المحللون على أن الخطوة الإسرائيلية هي إشارة البدء لتنفيذ مخطط تفتيت الدول العربية إلى دويلات وكانتونات متصارعة.

 

الدكتور صريح صالح القاز يرى أن الاعتراف بصوماليلاند هو "رسالة تحفيزية" للمجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، لإغرائه بإعلان الانفصال تحت وعود الاعتراف الدولي المماثل، مما يضمن بقاء اليمن في حالة "اللا دولة" واللا استقرار، ويحوله إلى قاعدة انطلاق إسرائيلية لتهديد الشمال اليمني ومحاصرة السعودية من خاصرتها الجنوبية.

 

 

وفي السياق ذاته، يحذر الصحفي عبد الباري عطوان من أن هذا الاعتراف هو "أول تطبيق رسمي لمخطط التفتيت"، متسائلاً عن الأهداف الخمسة لإسرائيل، والتي تتلخص في: خنق مصر، محاصرة اليمن، ابتزاز السعودية، السيطرة على البحر الأحمر، وتكريس الانقسام العربي.

 

 

ويؤكد الكاتب ياسر الزعاترة أن ما يجري في الصومال واليمن والسودان وسوريا هو حلقات مترابطة لمشروع صهيو-أمريكي يهدف لتركيع الأمة، محذراً من أن "حبات المسبحة ستتساقط تباعاً" إذا لم يستفق عقلاء العرب ويتجاوزوا خلافاتهم الأيديولوجية لمواجهة هذا الخطر الوجودي.

 

 

الدور الوظيفي: "بصمات" إقليمية في الجريمة

 

لا يمكن قراءة التغلغل الإسرائيلي في القرن الأفريقي بمعزل عن الأدوار التي تلعبها بعض القوى الإقليمية. الدكتور فايز أبو شمالة يذهب إلى أن "أرض الصومال" هي دولة "صنعها محمد بن زايد وقدمها هدية لنتنياهو" لمحاصرة مصر وخنق اليمن، في إشارة صريحة للدور الإماراتي.

 

 

ويعزز هذا الطرح الكاتب نظام المهداوي، الذي انتقد عجز الدول العربية عن تسمية الأشياء بمسمياتها، مشيراً إلى أن الإمارات كانت الدولة الأولى التي رعت مشروع التقسيم واعترفت ضمنياً بصوماليلاند، ممهدة الطريق لـ"إسرائيل الكبرى" التي لا تقف عند حدود النيل والفرات، بل تتجاوزها لتطويق الإقليم بأكمله.

 

 

الدكتور مراد علي يضيف بعداً آخر، مشيراً إلى التنسيق الواضح بين الدولة العربية الداعمة للانفصال وبين إثيوبيا، التي تسعى لمنفذ بحري، مما يخلق "طوقاً جيوسياسياً" يهدد الأمن القومي المصري بشكل مباشر، خاصة في ظل تقاطع هذه التحركات مع ملف سد النهضة وأزمة دارفور.

 

 

استراتيجية المواجهة: سياسة مضادة لا بيانات شجب

 

أمام هذا التحدي الوجودي، يجمع الخبراء على أن بيانات الإدانة لم تعد تجدي نفعاً. المطلوب، كما يطرح أسامة رشدي، هو "سياسة مضادة" عاجلة ترتكز على تنسيق استراتيجي بين مصر والسعودية وتركيا، وشراكة مباشرة مع الحكومة الصومالية المركزية لتقويتها، وتثبيت قواعد أمن بحري إقليمي تمنع إسرائيل من الاستفراد بالممرات المائية.

 

إن البحر الأحمر وباب المندب ليسا مجرد ملف اقتصادي، بل هما "مسألة أمن قومي عربي من الدرجة الأولى". وأي تأخير في صياغة ردع عربي مشترك سيعني تسليم مفاتيح المنطقة بالكامل للمشروع الصهيوني، الذي يسعى لتحويل العرب من "أصحاب أرض" إلى "مجرد سكان" في كانتونات ممزقة، تتحكم في مصيرهم تل أبيب من غرف عملياتها في هرجيسا وعدن وسواكن.