للسنة الرابعة على التوالي، تواصل حكومة الانقلاب سياسة "المناورة والغموض" حول مصير بنك القاهرة، ثالث أكبر بنك حكومي في مصر، والذي يبدو أنه بات "الضحية القادمة" في مسلسل بيع الأصول العامة تحت مسمى "وثيقة ملكية الدولة". فوسط تلميحات متضاربة من رئيس الوزراء مصطفى مدبولي وتصريحات ملتبسة لوزيرة التخطيط، يتكشف بوضوح أن النظام يسعى لتمرير صفقة بيع البنك -أو حصة حاكمة منه- كحل أخير لتوفير سيولة دولارية عاجلة، تمكنه من سداد أقساط ديون هائلة ابتلعت مقدرات البلاد ورهنت مستقبلها للمؤسسات الدولية.
إن الإصرار على طرح بنك بحجم وثقل "بنك القاهرة"، الذي يمتلك أصولاً تقدر بمليارات الدولارات وقاعدة عملاء تتجاوز الملايين، يكشف عن عجز حكومي فاضح في ابتكار حلول اقتصادية حقيقية، واستسهال اللجوء لبيع "جواهر التاج" الاقتصادي لسد العجز، في خطوة يصفها مراقبون بأنها "مقامرة بمستقبل القطاع المصرفي المصري".
الغموض المقصود: خوف من الغضب الشعبي أم ترتيب لصفقة مشبوهة؟
تتعمد الحكومة إحاطة ملف بيع بنك القاهرة بسياج من السرية والغموض، وهو ما يفسره خبراء اقتصاديون بأنه "تكتيك خبيث" لتفادي إثارة الرأي العام والمعارضة السياسية التي ترى في بيع البنوك الوطنية خطاً أحمر. فالتصريحات الرسمية تتأرجح بين "الطرح في البورصة" و"الشراكة الاستراتيجية"، دون تحديد هوية المستثمر المحتمل أو حجم الحصة المطروحة، مما يثير الشكوك حول وجود ترتيبات لبيع حصص حاكمة لجهات خليجية أو دولية في غرف مغلقة.
وفي هذا السياق، يحذر أحمد بهاء الدين شعبان، مؤسس الحزب الاشتراكي المصري، من خطورة تسرب أصول استراتيجية مثل بنك القاهرة إلى أيادي مستثمرين أجانب قد تكون لهم ارتباطات بكيانات معادية، مشيراً إلى أن "التفريط في بنك يلعب دوراً محورياً في دعم الصادرات والشركات الوطنية هو جريمة في حق الاقتصاد المصري. نحن أمام سلطة تبيع كل شيء لتسديد ديون لم يستفد منها الشعب، وتفتح الباب أمام هيمنة خارجية على مفاصل الاقتصاد."
مبادلة الديون بالأصول: رهن السيادة الوطنية
تكشف التصريحات الحكومية عن توجه خطير لتبني آلية "مبادلة الديون بالأصول"، وهي صيغة مهذبة لبيع ممتلكات الدولة للدائنين مقابل شطب جزء من الديون. ووفقاً لمقال رئيس الوزراء الأخير، فإن بنك القاهرة مرشح ليكون جزءاً من هذه الصفقات، وهو ما يعني عملياً تنازل الدولة عن ملكية وإدارة مؤسساتها المالية لصالح الدائنين.
يرى مراقبون أن هذا التوجه يمثل "إعادة هيكلة قسرية" للاقتصاد المصري بضغط من صندوق النقد الدولي، الذي يطالب بتقليص دور الدولة وخصخصة الشركات الرابحة. ويشير الخبير الاقتصادي عبد النبي عبد المطلب إلى أن "الحكومة تريد إثبات جديتها للمؤسسات الدولية عبر طرح الكيانات الناجحة فقط، لأنها الوحيدة القادرة على جذب الدولار. هذا يعني أن الدولة تتخلص من ’الدجاجة التي تبيض ذهباً‘، لتترك للأجيال القادمة الديون والأعباء فقط."
وتشير تقديرات البنك المركزي إلى ارتفاع مدفوعات الديون في 2026 إلى أكثر من 32 مليار دولار، وهو ما يضع الحكومة تحت ضغط هائل يدفعها لبيع أي أصل قابل للتسييل، بغض النظر عن قيمته الاستراتيجية.
بورصة الأوهام: هل يكرر "بنك القاهرة" سيناريو "المصرف المتحد"؟
رغم الترويج لفكرة "الطرح في البورصة" لتعزيز مشاركة المواطنين، إلا أن تجربة طرح "المصرف المتحد" الأخيرة كانت مخيبة للآمال وكشفت عن ضعف السيولة المحلية وعدم ثقة المستثمرين في التقييمات الحكومية. ومع ذلك، يصر البعض على أن طرح بنك القاهرة للاكتتاب العام قد يكون "أخف الضررين" مقارنة ببيعه لمستثمر استراتيجي أجنبي.
إلا أن المخاوف تظل قائمة من أن يكون الطرح في البورصة مجرد "واجهة" لتمرير حصص كبيرة لمؤسسات مالية دولية لاحقاً، أو أن يتم تقييم الأصول بأقل من قيمتها الحقيقية في ظل التدهور المستمر لسعر العملة.
في المحصلة، يبدو أن حكومة السيسي ماضية في طريقها لبيع بنك القاهرة، غير عابئة بالتحذيرات من تآكل الأصول الوطنية، ومدفوعة فقط بهاجس توفير الدولار "بأي ثمن" لتأجيل لحظة الانهيار المالي المحتوم، في وقت يتحول فيه الاقتصاد المصري تدريجياً إلى "رهينة" في يد الدائنين والمستثمرين الأجانب.

