في خطوة جديدة تعزز من قبضة "الدولة الجابية" وتتجاهل الأزمات المعيشية الطاحنة للمواطنين، وافق مجلس الشيوخ، الأحد 21 ديسمبر 2025، نهائياً على تعديلات قانون الكهرباء رقم 87 لسنة 2015.
هذه التعديلات، التي سوقتها حكومة مصطفى مدبولي تحت شعار "حماية المال العام" واسترداد 23 مليار جنيه ضائعة، جاءت لتشرعن سياسات عقابية قاسية تضع المواطن البسيط الذي يعجز عن سداد الفاتورة في كفة واحدة مع لصوص المال العام، مهددة آلاف الأسر بالسجن والغرامات المليونية، بينما تفتح "باباً خلفياً" للأغنياء وكبار المستهلكين للإفلات من العقاب عبر آلية التصالح المالي.
التعديلات الجديدة لم تكتفِ بتغليظ العقوبات لتصل إلى الحبس الوجوبي والغرامات التي تتراوح بين 100 ألف ومليون جنيه، بل حولت موظفي شركات الكهرباء إلى "رجل شرطة" عبر منحهم الضبطية القضائية، وسط مخاوف من أن يتحول الأمر إلى أداة للابتزاز والفساد الإداري.
ورغم محاولات مدبولي، في تصريحاته يوم 24 ديسمبر، تجميل الصورة بالادعاء أن القانون "لا يمس المواطن الملتزم"، إلا أن الواقع الاقتصادي المتردي وتآكل الدخول يكشف أن الهدف الحقيقي هو تعظيم الجباية لتعويض فشل السياسات الحكومية في إدارة ملف الطاقة.
مطرقة العقوبات: تجريم العجز ومساواة "لمبة" المنزل بمصنع
تتمثل الكارثة الكبرى في التعديلات الجديدة، وتحديداً المادة 70، في غياب العدالة التمييزية في العقوبة.
فالقانون ساوى في الغرامة المغلظة (من 100 ألف إلى مليون جنيه) والحبس (سنة على الأقل) بين مواطن بسيط في قرية يلجأ لتوصيلة غير شرعية لتشغيل مروحة أو إضاءة بسبب تعقيدات تركيب العدادات الكودية، وبين مصانع كبرى تسرق التيار بملايين الجنيهات.
وفي هذا السياق، يحذر محمود العسقلاني، رئيس جمعية "مواطنون ضد الغلاء"، من خطورة هذا النهج، مشيراً إلى أن: "الحكومة تعالج العرض وتترك المرض.
الكثير من حالات ما يسمى بسرقة التيار هي في الأصل نتاج بيروقراطية الدولة التي تأخرت سنوات في تركيب العدادات، أو فرضت نظام 'الممارسة' الذي هو في حد ذاته تقدير جزافي غير عادل للاستهلاك.
تحويل هؤلاء إلى مجرمين جنائيين مهددين بالحبس هو قنبلة موقوتة، فالمواطن الذي لا يجد قوت يومه لن يستطيع دفع غرامة بمئات الآلاف، وبالتالي سيكون السجن هو مصيره المحتوم."
كما أن التوسع في منح الضبطية القضائية لموظفين غير مؤهلين قانونياً، وربط مكافآتهم بحجم المحاضر المحررة، يفتح باباً واسعاً للفساد والمحسوبية، حيث قد يجد المواطن نفسه متهماً بالسرقة لمجرد عطل فني في العداد أو خلاف مع المحصل.
باب خلفي للفساد: "التصالح" لمن يملك الثمن
استحدثت التعديلات المادة (71 مكرراً) التي تنظم عملية التصالح، والتي تسمح للمتهم بإنهاء الدعوى الجنائية إذا قام بسداد قيمة التيار المسروق أو مثليه أو ثلاثة أمثاله حسب مرحلة التقاضي.
ويرى مراقبون أن هذه المادة صُممت خصيصاً لرجال الأعمال وأصحاب المنشآت الكبرى القادرين على الدفع الفوري لتجنب الحبس، بينما سيكتظ السجون بالفقراء العاجزين عن السداد.
يعلق الخبير الاقتصادي الدكتور عبد النبي عبد المطلب على هذه الجزئية قائلاً: "نحن أمام تشريع يكرس للطبقية القانونية. آلية التصالح المالي في الجرائم التي تمس المال العام، دون ضوابط صارمة، تتحول غالباً إلى باب لتقنين الفساد.
فالقادر مالياً سيسرق التيار، وإذا ضُبط سيدفع 'الغرامة' التي ستكون بالنسبة له أقل تكلفة من الفواتير الرسمية التراكمية، في حين أن الفقير الذي سرق لضرورة معيشية سيواجه الحبس.
هذا ليس ردعاً، بل هو جباية مقنعة وفشل في إدارة الموارد الاقتصادية عبر حلول أمنية بدلاً من الحلول التنموية."
المخاوف تتزايد من أن تكون تقديرات الغرامات خاضعة للأهواء الشخصية، حيث لا توجد معايير فنية دقيقة وشفافة لتحديد كمية التيار "المسروق" بأثر رجعي، مما يجعل تقدير الغرامة (التي قد تصل لمليون جنيه) سيفاً مسلطاً يمكن استخدامه انتقائياً.
الهروب من الأسباب الحقيقية: الفشل في إدارة ملف الطاقة
تتجاهل السردية الحكومية الأسباب الجذرية لتنامي ظاهرة سرقة التيار، والمتمثلة في الارتفاع الجنوني لأسعار الكهرباء بعد رفع الدعم كلياً، وتدهور البنية التحتية في المناطق العشوائية والريفية، مما يجعل الفاقد الفني في الشبكة يتم تحميله أحياناً على بند "السرقات" لتغطية عجز الميزانية.
وفي هذا الصدد، تشير الدكتورة عالية المهدي، العميد السابق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، إلى أن: "اللجوء للحل الأمني هو اعتراف ضمني بفشل السياسات الاقتصادية. المواطن المصري بات يواجه فاتورة طاقة تلتهم أكثر من 25% من دخله، في ظل موجات تضخم غير مسبوقة.
معالجة سرقة التيار لا تكون بالعصا الأمنية، بل بتحسين كفاءة الشبكة لتقليل الفاقد الفني الذي تتحمله الدولة، وبمراجعة شرائح الاستهلاك لتكون عادلة اجتماعياً. الدولة تعاقب المواطن على فقرها هي، وعلى تآكل البنية التحتية التي لم تطورها بالقدر الكافي في مناطق التوزيع، رغم المليارات التي أُنفقت على محطات التوليد."
في المحصلة، يبدو أن حكومة الانقلاب ماضية في سياسة "الجباية بالقانون"، محاولةً سد ثقوب الموازنة من جيوب الفقراء، عبر تشريعات تحول الخدمات الأساسية إلى سلع تجارية، وتعالج العجز المالي بمزيد من السجون والاحتقان الاجتماعي، متجاهلة أن الضغط على "الفيشة" قد يؤدي إلى انفجار لا تحمد عقباه.

