تستعد مصر لاستقبال عام 2026 وهي مثقلة بإرث اقتصادي مرير تراكم على مدار أكثر من عقد، فبعد 12 عاماً من تغيير النظام السياسي في 2013، تجد البلاد نفسها محاصرة بين فكي كماشة: "ركود منكر" يشل الأسواق ويجفف جيوب المواطنين، و"ديون فلكية" تلتهم الأخضر واليابس.

 

هذه الثنائية القاتلة، كما يصفها الخبراء، لم تعد مجرد مؤشرات في تقارير المؤسسات الدولية، بل تحولت إلى واقع يومي يعيشه المصريون مع كل فاتورة يدفعونها وكل سلعة يعجزون عن شرائها.

 

بينما تروج الحكومة لأرقام "تجميلية" عن الاقتصاد الكلي، يكشف الواقع عن هوة سحيقة تفصل بين البيانات الرسمية وبين معاناة الشارع.

 

فالدولة التي تعتمد سياسة "تسييل الأصول" لسداد الديون، تواجه اليوم تحدياً وجودياً يهدد استقلالها الاقتصادي، في ظل غياب أي أفق لحلول إنتاجية حقيقية، واستمرار الاعتماد على المسكنات التي، وإن أجلت الانفجار، فإنها تزيد من كلفة الفاتورة النهائية على الأجيال القادمة.

 

"الركود المنكر": عندما ينمو الاقتصاد "على الورق" فقط

 

في تشخيص دقيق للحالة، يصف الدكتور محمد فؤاد، أستاذ الإدارة بجامعة عين شمس والبرلماني السابق، الوضع الحالي بـ"الركود المنكر".

 

ويرى فؤاد أن الإدارة الاقتصادية ركزت طوال السنوات الأربع الماضية على "هندسة الأرقام" لتبدو جذابة للمؤسسات المانحة، متجاهلة تماماً الأثر المجتمعي لهذه السياسات.

 

والنتيجة هي مفارقة صارخة: نمو يظهر في الإحصائيات الرسمية، بينما الواقع أن "الدولة ماشية والناس بتكح تراب"، في إشارة إلى الانفصال التام بين الدورة الاقتصادية للدولة والدورة المعيشية للمواطن.

 

ويفسر الخبير الاقتصادي "إسحاق" هذه الظاهرة المعقدة، موضحاً أن الركود في الحالة المصرية لا يعني انخفاض الأسعار كما هو معتاد في الدورات الاقتصادية الطبيعية، بل هو ركود ناتج عن انهيار القدرة الشرائية مع بقاء تكاليف الإنتاج مرتفعة.

 

فمدخلات الصناعة من طاقة ونقل ومواد خام لم تنخفض، مما جعل التضخم يستمر رغم توقف المبيعات، ليدخل الاقتصاد في دوامة "الركود التضخمي" التي يصعب الخروج منها بالأدوات التقليدية.

 

 

دوامة الديون: بيع "اللحم الحي" لسداد الفوائد

 

الأزمة الأعمق تكمن في ملف الديون الذي وصفه الدكتور حسن الصادي، أستاذ اقتصاديات التمويل بجامعة القاهرة، بالكارثة.

 

ففي حديثه الصادم، كشف الصادي أن إجمالي إيرادات الدولة المصرية لم يعد يكفي حتى لسداد "فوائد الدين" (خدمة الدين)، ناهيك عن سداد أصل الدين نفسه.

 

هذا العجز الهيكلي أجبر الحكومة على الدخول في مسار خطير وهو "بيع الأصول" لسداد الالتزامات المستحقة.

 

 

والأخطر، كما تشير الإعلامية رانيا بدوي، أن الدائنين والمستثمرين لا يقبلون بشراء أي أصول، بل ينتقون "الكريمة": الأراضي الاستراتيجية، والموانئ الرابحة، والشركات التاريخية.

 

هذا يعني عملياً أن مصر تفقد، قطعة تلو الأخرى، مصادر دخلها المستقبلي وأدوات سيادتها الاقتصادية، لتتحول من دولة منتجة إلى دولة تبيع ممتلكاتها لتعيش يوماً بيوم.

 

 

وفي هذا السياق، ضربت الناشطة غادة نجيب مثالاً صارخاً بصفقة "الإسكندرية للحاويات"، التي بيعت لمستثمر إماراتي ليعيد بيعها لطرف ثالث بفارق ربح خيالي، في دلالة على سوء إدارة أصول الدولة وغياب الشفافية، بينما تلتزم الدولة بدفع مليارات الدولارات في صفقات غاز مثيرة للجدل.

 

 

المسؤولية السياسية ومستقبل غامض

 

أمام هذا المشهد القاتم، تتجه أصابع الاتهام نحو رأس السلطة التنفيذية.

 

يرى مراقبون، منهم حسابات نشطة وكتاب صحفيون مثل مجدي الجلاد، أن الأزمة ليست وليدة الصدفة بل هي نتاج قرارات سياسية مركزية، أبرزها اللجوء المفرط للاستدانة وتنفيذ مشاريع عملاقة بجدوى اقتصادية مشكوك فيها.

 

ويشير البعض إلى أن الحكومة الحالية لا تملك صلاحية القرار الحقيقي، بل تنفذ توجيهات رئاسية أوصلت البلاد إلى طلب النجدة من صندوق النقد الدولي رغم التحذيرات.

 

هذا المسار السياسي والاقتصادي خلق واقعاً اجتماعياً خطيراً، حيث تآكلت الطبقة الوسطى وانحدرت ملايين الأسر تحت خط الفقر.

 

ومع استمرار سياسة "الحلول السهلة" عبر بيع الأصول، يحذر الخبراء من أن مصر تواجه خطر فقدان "المناعة الاقتصادية" تماماً، لتصبح رهينة لتقلبات الدائنين وشروطهم المجحفة، ما لم يتم تدارك الأمر بتغيير جذري في فكر الإدارة الاقتصادية يضع الإنتاج والتصنيع قبل "اللقطة" والمشروعات الخرسانية.