وائل قنديل

كاتب صحافي مصري

 

امتشق سيفه، ولفّ خصره بحزام ناسف، وقفز في أتون عركة فيلم "الست" ضدّ جحافل الغزو الثقافي التي استقطبت مجموعةً من "خونة القوة الناعمة" لتشويه رموز مصر التاريخية، مثل أم كلثوم، سيّدة الغناء العربي. الفيلم سيئ؟ نعم، ورديء ومتهالك إبداعيًا شكلًا وموضوعًا، كما أنه يتعمّد إبراز أسوأ ما في أم كلثوم. لكنّه في نهاية المطاف منتج فني، كاتبه ومخرجه والممثلون كلّهم مصريون، فضلًا عن أنه ثبت أنه ليس من إنتاج جهةٍ ما مشغولة (حدّ الهوس) بفكرة الريادة الثقافية على أنقاض موروث ريادي مصري راسخ كالجبال. وبالتالي يصبح الذهاب إلى شيطنة طاقمه وتخوينه، وإعلان الحرب عليهم انطلاقًا من أن هذه هي الوطنية والنضال الحقيقي دفاعًا عن الكرامة والسيادة، تضخيمًا مبالغًا فيه، وخصوصًا مع حالة الاستغراق التام في الموضوع وكأنّه القضية الوطنية الأولى والأخطر.

 

المدهش حقًّا أن الذين أصابتهم حُمّى النضال الوطني ضدّ الفيلم، وبينما هم يطلقون صيحات الكفاح، مرّت من أمامهم فضيحة صفقة الغاز الطبيعي التي يتحكّم من خلالها الكيان الصهيوني بطاقة مصر 30 عامًا مقبلة على الأقلّ، فلم تحرّك فيهم غضبًا أو تهزّ شعرةً من شعيرات الوطنية الكثيفة التي تغطّي حناجرهم وألسنتهم. أو بالأحرى، أغمض ذلك المنتفض ضدّ "الست" (منى زكي)عينيه، ووضع حشوتَيْن من القطن في أذنيه، وتعطّلت لغة الكلام على لسانه، حتى جاءته وثائق إبستين، فنطق مرّةً أخرى، ووجد فيها مهربًا معقولًا من ورطة التعليق على "نكسة الغاز الثانية".

 

ويثير العجب أكثر أن هذا الذي التزم الصمت حيال النكسة الثانية، كان في مقدّمة الصفوف في معركة "نكسة الغاز الأولى" في سنوات حكم حسني مبارك، حين قرّر بيع الغاز الطبيعي المصري إلى العدو الصهيوني، الأمر الذي دفع الجماعة الوطنية المصرية للاصطفاف في معركة جماهيرية وقضائية حامية الوطيس قادها المناضل الوطني الجسور (والحقيقي) السفير الراحل إبراهيم يسري. فاشتعلت النقابات والجامعات بالهتاف "لا لنكسة الغاز" حتى حصلوا على حكم من القضاء الإداري بوقف تصدير الغاز، وهو الحكم الذي عطّله نظام حسني مبارك بأن استصدر قرارًا من المحكمة الإدارية العليا في فبراير 2009، جاء بمثابة طعنة في صدور المصريين المناضلين ضدّ بيع الغاز الطبيعي إلى العدو. فلم يتوقّف نضال القوميين والناصريين والإسلاميين ضدّ ذلك العار الذي لا يليق بمصر العربية.

 

ما الذي جعل هؤلاء المناضلين القدامى كلّهم ضدّ تصدير الغاز إلى الصهاينة قبل 20 عامًا يصمتون صمت الحملان على شراء غاز فلسطين المسروق من الصهاينة، في صفقة كارثية تصل إلى 35 مليار دولار، يتكبّد كلفتها مواطن مسحوق بالقهر ومجلود بسياط الفقر والحاجة، ولا يعجب حكومته فلا تطيقه وتعتبره عبئًا عليها، وتعنّفه و"تشخط فيه" طوال الوقت، وتتهمه بقصور الفهم وقصر النظر؛ على نحو ما قال رئيسها في تصريحات من لبنان، هذا نصّها كما نقلته مواقع مصرية: "المواطن كل اللّي يهمّه حياته النهاردة، لكن مش شايف النظرة الأبعد... مش شايف إن مع الإصلاحات المؤلمة والتعب لمدة سنتين أو تلاتة أو خمسة وضع البلد بعد كده هيبقى أفضل بكتير... الإصلاح الاقتصادي عملية غير شعبوية، وإذا لم تتدخل بهذه العملية الجراحية فالمسكّنات لن تصلح الحياة".

 

أهو الدخان المتصاعد من المعركة ضدّ منى زكي وفيلم "الست" الذي جعل هذه الأنوف الوطنية الشامخة كلّها لا تشمّ رائحة كارثة الغاز الصهيوني، فلم تصل إليها أنباء هذه الكارثة؟ أم أنهم يرون في الأمر فوائدَ جمّةً تعود على الأمن القومي لا يدركها العامّة والبسطاء؟ وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا لم ينبروا للدفاع عن الصفقة كما اندفعوا للدفاع عن الأمن القومي ضدّ هجمة "الست"؟ هل كان البيع للاحتلال نكسةً، بينما الشراء منه نصرةً مثلًا، وبالتالي من الأفضل دعمها بالصمت حتى لا يفسدها الأشرار؟

 

أيُّ هزيمة أكبر، وأيُّ خسارة حضارية أفدح، من أن يصبح لدينا مجتمع لا ينزعج ولا يغضب من صفقة صار معها الصهيوني واصلًا إلى عقر داره، موجودًا في غرفة نومه ومطبخه وحمّامه، يستوي في ذلك المواطن العادي والمثقّف المختبئ في دخان معركة "الست" وفضائح إبستين!