لم يعد "الخوف من المستقبل" مجرد هاجس عابر يؤرق المصريين قبل النوم، بل تحول خلال السنوات الإحدى عشرة الماضية من حكم قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي إلى "عقيدة دولة" وبرنامج عمل يومي.

 

ففي ظل سلطة تدير البلاد بمنطق "الجباية أو السجن"، باتت حالة عدم الاستقرار النفسي والمادي هي القاسم المشترك بين الملياردير والفقير؛ الأول يخشى تأميم أمواله لسداد ديون جنونية، والثاني يرتعد من قرار إزالة يطال بيته لصالح مستثمر إماراتي.

 

هذه الحالة من الرعب المقنن، المتزامنة مع انسداد سياسي تام وبيع لأصول الدولة التاريخية، دفعت المراقبين والمعارضين لوصف المرحلة الحالية بأنها "مرحلة تصفية مصر" لصالح الدائنين، بينما يواصل النظام تشييد قصوره الرئاسية غير عابئ بشعب يقتات على الخبز والخوف.

 

"مزاد" بيع الأصول: من النيل إلى الخليج

 

تحت شعار "جذب الاستثمار"، تحولت مصر إلى "سوق مفتوح" تُعرض فيه الأصول الاستراتيجية للبيع بأسعار بخسة، في محاولة يائسة لسد فجوة ديون تجاوزت حاجز الـ 160 مليار دولار خارجيًا، ومثلها داخليًا.

 

وفي هذا السياق، يرى الخبير الاقتصادي د. أشرف دوابة أن ما يجري ليس استثمارًا بل "تسليم مفاتيح الدولة لدائنيها"، مشيرًا إلى أن طرح حصص في شركات رابحة وقطاعات حيوية كالموانئ والأسمدة للصناديق السيادية الخليجية، وتحديدًا الإماراتية، هو "إفلاس مقنّع" ونتيجة حتمية لسياسة الاقتراض العشوائي التي انتهجها النظام لتمويل مشاريع استعراضية لا جدوى منها.

 

ويشير دوابة إلى أن هذه السياسات لم تنتج تنمية، بل أنتجت "هروبًا جماعيًا" لرؤوس الأموال الوطنية؛ فالمستثمر المصري الذي يرى أصول بلاده تُباع للأجنبي، ويشعر بسيف المصادرة مسلطًا على رقبته، فضل نقل أمواله إلى المغرب والسعودية، تاركًا الساحة خالية لـ "مستثمرين" تلاحقهم شبهات العمل كواجهات لمشاريع صهيونية تهدف لاختراق الأمن القومي المصري عبر بوابة الاقتصاد.

 

انتخابات "الصوت الواحد" وتأميم السياسة

 

سياسيًا، لم تكن الانتخابات البرلمانية الأخيرة سوى فصل جديد من مسرحية "الديمقراطية الشكلية" التي يتقنها النظام. وفي وصفه للمشهد، أكد الكاتب والسياسي قطب العربي أن العملية الانتخابية جاءت "مهينة لكرامة المواطن"، حيث تم تصميمها بنظام القوائم المطلقة وهيمنة المال السياسي لضمان إنتاج برلمان "بصّام" خالي من أي صوت معارض حقيقي. ويرى العربي أن النظام أغلق المجال العام تمامًا، ولم يترك أي فرصة للإصلاح السلمي، محولًا الاستحقاقات الدستورية إلى طقوس فولكلورية تهدف فقط لإرضاء الخارج، بينما الداخل يغلي تحت السطح.

 

ويتفق مع هذا الطرح أستاذ العلوم السياسية د. حسن نافعة، الذي حذر مرارًا من "الفراغ السياسي المخيف" الذي صنعه السيسي، معتبرًا أن اختزال الوطن في شخص الرئيس، وتخوين كل من يجرؤ على النقد، قاد البلاد إلى انسداد أفق كامل. ويؤكد نافعة أن العناد والجهل السياسي للسلطة الحالية يمنعان أي فرص للتصحيح، مما يجعل الانفجار هو السيناريو الأكثر ترجيحًا في ظل غياب قنوات التنفيس الشرعية.

 

الفرعون العاري: وثائقي يكشف المستور

 

جاء البرنامج الوثائقي "السيسي: فرعون مصر الجديد" الذي بثته قناة "Arte" الفرنسية-الألمانية، ليعري النظام أمام العالم ويكسر حاجز الصمت الدولي. الفيلم الذي لم يجد النظام ردًا عليه سوى التجاهل المريب، سلط الضوء على التناقض الفج بين بذخ القصور الرئاسية والطائرات الفاخرة، وبين دعوات التقشف التي يوجهها السيسي لشعب يطالبه بـ "أكل ورق الشجر" والصبر لمئة عام.

 

وفي تعليق سابق يعكس عمق الأزمة، كان الكاتب الصحفي عبد الناصر سلامة (المعتقل سابقًا بسبب آرائه) قد وجه نداءً شهيرًا للسيسي بعنوان "افعلها ياريس وتنحى"، محملًا إياه مسؤولية تحويل مصر إلى دولة "جباية" وتدمير الطبقة الوسطى. سلامة الذي دفع حريته ثمنًا لمقالاته، أشار بوضوح إلى أن استمرار هذا النهج في رفع الدعم وسحق الفقراء، بالتزامن مع الفشل في ملفات حيوية كسد النهضة، يضع مصر على حافة الهاوية، وأن "اللامبالاة" التي يبديها النظام تجاه غضب الشارع هي أخطر ما في المشهد.

 

هذه التوليفة من الفشل الاقتصادي، والقمع السياسي، والتبجح في استعراض الثروة، لم تترك للشباب المصري سوى خيار واحد: الهروب. سواء عبر قوارب الموت في البحر المتوسط، أو بالوقوف في طوابير الذل أمام السفارات، ليفقد الوطن خيرة أبنائه من أطباء ومهندسين، وتتحول مصر العظيمة إلى دولة طاردة لشعبها، بينما يواصل "الفرعون" بناء مجده الشخصي فوق أنقاض الجميع.