عودة السياح الإسرائيليين إلى جنوب سيناء بعد وقف إطلاق النار ليست مجرد خبر سياحي عابر، بل إهانة سياسية وأخلاقية مكتملة الأركان لنظام يزعم أنه “غاضب من المجازر في غزة” بينما يفتح حدوده وحدائقه وشواطئه لمنفذي هذه المجازر كي يستجمّوا على بعد كيلومترات من الدم الفلسطيني. هذا المشهد يلخص معادلة السيسي: غزة تحت القصف، وسيناء مفتوحة للمحتل، والمصري الفقير مرفوض على شواطئ بلده أو عاجز عن دفع تكاليف نفس العطلة التي تُمنَح للإسرائيليين بأسعار “مغرية”.

 

سياحة على أنقاض غزة

 

عودة آلاف السياح الإسرائيليين إلى جنوب سيناء مع أول هدنة هشة في غزة تعني أن الاحتلال يستطيع أن ينتقل بسلاسة من وضع “الجيش الذي يقصف” إلى وضع “السائح الذي يستمتع” من دون أي ثمن سياسي أو شعبي حقيقي في مصر. توقف المدافع لبضعة أيام يُستغل لتحويل الحدود مع سيناء إلى ممر لعطلات “حانوكا” على شواطئ شرم ودهب ونويبع، بينما جثث الأطفال في غزة لم تبرد بعد، والمخيمات ما زالت بلا ماء ولا دواء. النظام الذي يتشدق بخطاب “الوسيط النزيه” و”الراعي للقضية الفلسطينية” يسمح فعلياً بعودة الحياة الطبيعية للإسرائيلي على حساب تطبيع الدم، في رسالة واضحة للشعوب: عادي جداً أن يقتلنا نهاراً ثم يسبح في مياهنا ليلاً.

 

سيناء كفناء خلفي للاحتلال

 

إعادة امتلاء جنوب سيناء باللغة العبرية بعد عامين من الانقطاع تعني أن المنطقة تحولت عملياً إلى فناء خلفي آمن للإسرائيلي، يدخل ويخرج متى شاء، رغم تحذيرات حكومته الأمنية، ورغم الغضب الشعبي العربي من جرائم الحرب في غزة. هذا ليس مجرد “نشاط سياحي”، بل إعادة تثبيت لوضع شاذ: سيناء التي كان يفترض أن تكون خط دفاع استراتيجي ومجالاً حيوياً للأمن القومي المصري، صارت مساحة استجمام مفضلة لمواطني دولة تحتل أرضاً عربية وتشارك في حصار وتجويع شعب كامل. النظام المصري يشجع هذه العودة لأنه يستفيد من العملة الصعبة قصيرة المدى، حتى لو كان الثمن تكريس حضور إسرائيلي كثيف على أرض لها حساسية عسكرية وسيادية قصوى.

 

غضب شعبي مكبوت ونظام بلا كرامة

 

التقارير التي تتحدث عن احتكاكات ومشادات بين بعض الإسرائيليين وسكان محليين تكشف أن المزاج الشعبي في العمق لا يقبل هذا “التطبيع السياحي” مهما حاول النظام شراء الصمت بالمنع والقمع. أهل سيناء الذين دفعوا ثمن الحرب على “الإرهاب”، والتهجير، ومناطق عسكرية مغلقة، يرون اليوم السياح القادمين من دولة تقتل الفلسطينيين يدخلون بيسر إلى نفس الشواطئ التي حُرم منها كثير من المصريين لأسباب أمنية أو اقتصادية. النظام هنا لا يحمي كرامة الناس ولا يعبر عن مشاعرهم، بل يقمع أي تعبير حقيقي عن الرفض، ثم يترك الإعلام الرسمي يروّج لصورة “علاقات طبيعية وسياحة آمنة” مع من لا يزال يضغط عسكرياً وسياسياً على غزة وعلى مصر نفسها من بوابة سيناء والغاز والحدود.

 

اقتصاد بلا سيادة وأمن بلا كرامة

 

تتعامل السلطة مع ملف السياحة على أنه صنبور دولارات بأي ثمن، دون أي اعتبار للسياق السياسي والأخلاقي أو لرسالة سيادة الدولة على أراضيها. حين يصبح “السائح الإسرائيلي” أولوية فوق مشاعر ملايين العرب والغاضبين من المجازر، وحين يُفتح له الطريق إلى سيناء بينما يُغلَق معبر رفح في وجوه الجرحى والنازحين لساعات وأيام، فهذه ليست سياسة دولة بل سمسرة في السيادة والكرامة. تحذيرات مجلس الأمن القومي الإسرائيلي من السفر إلى سيناء تُوظَّف في الإعلام العبري لإظهار المصريين كخطر محتمل، بينما تستقبلهم السلطات المصرية بكل ترحاب وتسهيلات، في مشهد لا يرى فيه النظام أي تناقض: المهم أن تدور ماكينة الدخل، ولو على حساب دماء غزة وسمعة مصر أمام شعوبها وجيرانها.

 

واخير فان سيناء بين الاحتلال والارتهان

 

عودة الإسرائيليين إلى جنوب سيناء بعد وقف إطلاق نار هش تكشف حقيقة أن النظام الحاكم لا يرى في العدوان على غزة سوى “أزمة إدارة ملفات”، لا جريمة تستدعي موقفاً جذرياً. يسمح لجنود الأمس أن يتحولوا إلى سياح اليوم على أرض مصرية، بينما يطالب شعبه بالصبر على الفقر والتقشف بإسم “الظروف الصعبة”. سيناء في هذه المعادلة ليست أرضاً للمقاومة ولا بوابة لرد الكرامة، بل ورقة في يد سلطة تبحث عن أي مصدر دخل وعن رضى أمني إسرائيلي–أميركي يضمن بقاءها. وبينما يرفع المصري والعربي عينه إلى السماء يدعو لغزة، ينزل المحتل إلى رمال سيناء يستمتع بشمسها، محمياً بشبكة مصالح نسجها نظام فقد القدرة على الحياء قبل أن يفقد أي ادعاء بالسيادة أو الشرف الوطني.