في واقعة تكشف عن الثمن النفسي الباهظ لجرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، أقدم ضابط إسرائيلي في لواء جفعاتي على الانتحار، بعد أن عجز عن التعايش مع ما ارتكبه من أفعال خلال العدوان المستمر على القطاع منذ السابع من أكتوبر 2023.
الضابط الذي لم يُكشف عن هويته بالكامل، ترك رسالة مكتوبة قبل انتحاره، اعترف فيها بارتكابه "أمورًا لا تُغتفر"، وأنه لم يعد قادرًا على العيش مع ذكرياتها، واصفًا نفسه بأنه "في حالة ضياع ودمار"، وأن "شيطانًا" يطارده منذ بداية الحرب.
هذه الواقعة، رغم محاولات الجيش الإسرائيلي التعتيم عليها أو تقديمها كـ"حالة فردية"، تضع أمام العالم شهادة حية من داخل آلة القتل الصهيونية، تؤكد أن ما يجري في غزة يتجاوز "عمليات عسكرية" إلى جرائم حرب وانتهاكات ممنهجة، حتى أن بعض منفذيها لم يستطيعوا تحمل وزرها الأخلاقي.
ولعل هذا الانتحار يمثل أيضًا صرخة غير مباشرة في وجه السردية الإسرائيلية الرسمية التي تصوّر جنودها كـ"ضحايا" يدافعون عن وجودهم، بينما الحقيقة أن كثيرًا منهم أدوات لمذابح يومية تستهدف المدنيين.
اعتراف بجرائم لا تُغتفر
الرسالة التي تركها الضابط المنتحر تحمل اعترافًا صريحًا بارتكاب "أمور لا تُغتفر"، دون أن يحدد طبيعتها بالتفصيل.
لكن السياق الزمني والجغرافي لوجوده في لواء جفعاتي، أحد الألوية التي شاركت بشكل مباشر وكثيف في العدوان على غزة، يضع هذه "الأمور" في إطار واضح: القصف العشوائي للمنازل، استهداف المدنيين، التدمير الممنهج للأحياء السكنية، والمشاركة في عمليات إعدام ميدانية، وربما التعذيب والاعتقال التعسفي للفلسطينيين.
عبارة "لا أستطيع أن أعيش معها بعد الآن" تكشف عن صدمة أخلاقية عميقة، ناتجة عن مواجهة مباشرة مع حجم الدمار والموت الذي تسبب فيه. هذا الاعتراف، حتى وإن جاء بعد فوات الأوان، يشكّل وثيقة إدانة إضافية لجيش الاحتلال، ويفند الادعاءات الإسرائيلية بأن عملياته "تلتزم بالقانون الدولي" أو تحترم "التمييز بين المدنيين والمقاتلين".
شيطان يطارده منذ 7 أكتوبر
استخدام الضابط لعبارة "شيطان بداخلي يطاردني منذ 7 أكتوبر" يكشف عن حجم الصراع النفسي الداخلي الذي عاشه منذ بداية الحرب. هذا "الشيطان" ليس كيانًا مجردًا، بل تجسيد لذكريات الضحايا الذين شارك في قتلهم أو تدمير منازلهم، وصور الأطفال والنساء والمدنيين العزّل الذين سقطوا تحت نيران لوائه.
المفارقة أن الآلة الإعلامية والسياسية الإسرائيلية تصوّر جنودها كـ"أبطال" يدافعون عن الوطن، وتحاول تطهير صورتهم بزعم أنهم "يواجهون إرهابيين"، بينما الواقع أن جزءًا منهم على الأقل يدرك أن ما يفعله ليس دفاعًا عن النفس، بل مشاركة في مذبحة جماعية ضد شعب محاصر. الانتحار هنا ليس مجرد "انهيار نفسي فردي"، بل نتيجة منطقية لتعارض عميق بين ما يُفرض على الجندي فعله، وبين ما يبقى لديه من بقايا ضمير إنساني.
الطلب الأخير "أرجو أن تنسوني" يحمل دلالة رمزية عميقة: الضابط لا يطلب المغفرة أو التبرير، بل الاختفاء من الذاكرة الجماعية، وكأنه يدرك أن ما فعله لا يمكن تبريره أو محوه، وأن الحل الوحيد أمامه هو الخروج من الحياة تمامًا.
لواء جفعاتي وسجل حافل بالانتهاكات
لواء جفعاتي، الذي ينتمي إليه الضابط المنتحر، ليس لواءً عاديًا في هيكل الجيش الإسرائيلي. هذا اللواء شارك في أغلب العمليات العسكرية الكبرى ضد غزة، بما في ذلك عدوان 2014 والحرب الحالية المستمرة منذ أكتوبر 2023. تقارير حقوقية فلسطينية ودولية وثّقت تورط عناصر من اللواء في جرائم حرب، منها تدمير أحياء سكنية بالكامل، استهداف مستشفيات ومدارس، وإطلاق النار على مدنيين عزّل أثناء محاولتهم الفرار من مناطق القتال.
في الحرب الحالية على غزة، التي أسفرت حتى الآن عن سقوط عشرات الآلاف من الشهداء، معظمهم من المدنيين، كان لواء جفعاتي في قلب العمليات البرية، وتحديدًا في مناطق شمال القطاع والممر الحدودي. الشهادات الميدانية تتحدث عن استخدام القوة المفرطة، والقصف العشوائي، وحالات إعدام ميداني، وتدمير ممنهج للبنية التحتية المدنية.
بهذا المعنى، فإن انتحار ضابط من هذا اللواء بالتحديد ليس مفاجئًا، بل يعكس طبيعة المهام التي كُلف بها، والأفعال التي شارك فيها أو شهدها، والتي تجاوزت حدود "القتال المشروع" إلى نطاق المجازر المنظمة.
شهادة على جرائم حرب مستمرة
ما يجعل واقعة الانتحار هذه مهمة ليس البعد الفردي فحسب، بل كونها تمثل شهادة ضمنية على ما يحدث في غزة. حين يصل جندي إلى حد الانتحار لأنه لا يستطيع التعايش مع أفعاله، فهذا يعني أن تلك الأفعال تجاوزت بكثير أي تعريف لـ"الدفاع المشروع"، ودخلت في نطاق الجرائم التي لا يمكن لضمير إنساني طبيعي أن يتحملها.
هذه الواقعة يجب أن تُضاف إلى ملف الجرائم الإسرائيلية في غزة، وأن تُستخدم كدليل إضافي أمام المحاكم الدولية والمؤسسات الحقوقية. فالاعتراف، حتى لو جاء في رسالة انتحار، يبقى اعترافًا بوقوع "أمور لا تُغتفر"، ويضع مسؤولية إضافية على عاتق المجتمع الدولي للتحرك الفوري لوقف هذه المذبحة المستمرة.
في النهاية، هذا الضابط الذي اختار الموت هربًا من ذكريات جرائمه، لن يُنسى كما طلب، بل سيبقى رمزًا لحقيقة بسيطة: أن ما يحدث في غزة ليس حربًا عادلة، بل إبادة يشارك فيها جنود يدركون، ولو متأخرًا، أنهم يرتكبون جرائم لا يمكن التكفير عنها.

