مع انطلاق ماراثون التزوير مجدداً في جولة الإعادة التي بدأت صباح أمس الأربعاء واستمرت حتى مساء اليوم الخميس، في الدوائر العشرين التي ألغى القضاء نتائجها سابقاً، لم يحتج الأمر لأكثر من 48 ساعة لتسقط ورقة التوت الأخيرة عن عورة "برلمان السيسي".
ففي مشهد يعكس حالة الفجر السياسي والاستهانة بعقول المصريين، اعترفت الهيئة الوطنية للانتخابات نفسها بتلقي 53 شكوى رسمية في يوم واحد، توزعت على محافظات الصعيد والدلتا، لتكشف أن ما يجري خلال هذين اليومين ليس عملية ديمقراطية، بل "حفلة تزوير" منظمة تُدار بالمال الفاسد والتوجيه الأمني الفج.
هذه الشكاوى ليست مجرد أرقام إحصائية، بل هي محاضر ضبط لجريمة سياسية متكاملة الأركان تُرتكب بحق إرادة الناخبين، ليعود النظام ويمارس الفساد ذاته الذي أُلغيت بسببه الجولة الأولى، ولكن بوقاحة أشد.
تجميع مواطنين بأحد مخازن الخردة بإحدى الشوارع المحيطة بدائرة انتخابية بإمبابة بمحافظة الجيزة لشراء أصواتهم والداخلية تعلن ضبط مرتكبي الواقعة#تريند pic.twitter.com/14QMKCY9Ud
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) December 4, 2025
قائمة العار: 53 بلاغاً تعري "نزاهة" الهيئة الوطنية
رقم "53 شكوى" في 20 دائرة فقط هو رقم كارثي بكل المقاييس الانتخابية، ويؤكد أن المخالفات لم تكن سلوكاً فردياً، بل منهجاً عاماً. تفاصيل الشكاوى التي أعلنها الجهاز التنفيذي للهيئة تفضح الآليات القذرة التي يُدار بها المشهد:
• توجيه الناخبين (14 شكوى): وهو المصطلح المهذب لـ "الإجبار والترهيب". فأن يتم رصد 14 حالة موثقة لتوجيه الناخبين داخل وخارج اللجان، يعني أن الأجهزة الأمنية ورجال المرشحين المحسوبين على السلطة كانوا يقفون فوق رؤوس المواطنين لإجبارهم على اختيار أسماء بعينها.
• مزادات الرشوة (7 شكاوى): لم يعد شراء الأصوات يتم في الخفاء. الشكاوى رصدت "خياماً" كاملة لتوزيع الرشاوى، كما حدث في إمبابة، حيث تحول الفقر الذي صنعه الانقلاب إلى سوط يُجلد به المواطن ليبيع صوته مقابل حفنة جنيهات أو كرتونة سلع، في استغلال رخيص لأوجاع الناس.
"الغرف المظلمة": طرد المندوبين لتزوير الصناديق
لعل أخطر ما ورد في قائمة الـ 53 شكوى هو البند الخاص بـ "عدم السماح للمندوبين بالدخول" (11 شكوى). هذا الانتهاك تحديداً يكشف النية المبيتة للتزوير. فمنع مندوبي المرشحين المنافسين أو الأحزاب من دخول اللجان (كما حدث في مدرسة قوص الثانوية ومدرسة عبد الحميد رضوان بسوهاج) يعني شيئاً واحداً: "إخلاء مسرح الجريمة" من الشهود.
النظام يريد لجاناً بلا رقابة، وصناديق بلا حراس، ليتسنى لرؤساء اللجان الموجهين والضباط المشرفين "تستيف" الأوراق وتعديل النتائج بما يوافق "الكشوف الأمنية" القادمة من مكاتب الأمن الوطني، بعيداً عن أي عين تراقب أو توثق.
سوهاج وقنا: "بؤر الفساد" تتصدر المشهد
جغرافيا الشكاوى تفضح تركيز التلاعب في الصعيد، حيث تصدرت سوهاج بـ 18 شكوى، تلتها قنا بـ 15 شكوى. هذا التركيز ليس عشوائياً؛ فالصعيد الذي يرزح تحت التهميش والفقر، يُنظر إليه من قبل نظام الانقلاب كـ"خزان انتخابي" يمكن السيطرة عليه عبر العصبيات القبلية والضغط الأمني.
الشكاوى في هذه المحافظات تنوعت بين إغلاق لجان بالكامل في وجه ناخبين بعينهم (مثل اللجنة 34 بنجع الصوامعة)، وبين نقص متعمد في أوراق الاقتراع لتعطيل التصويت في المناطق التي لا تدين بالولاء لمرشحي السلطة. إن ما يحدث في سوهاج وقنا هو إرهاب دولة يمارس ضد مواطنين عزل لمنعهم من اختيار ممثليهم، ولفرض "نواب العائلات" الموالين للنظام بقوة السلاح والمال.
حتى "أحزاب الديكور" تصرخ: المسرحية احترقت
المفارقة الصارخة في هذه الشكاوى أنها لم تأتِ فقط من معارضين، بل جاءت من أحزاب هي جزء من "هندسة المشهد" مثل حزب "العدل"، و"الشعب الجمهوري"، و"الجيل".
• حزب الجيل رصد خيمة للرشاوى في إمبابة.
• حزب العدل اشتكى من تعطيل التصويت وتوزيع منشورات دعائية مخالفة.
• حزب الجبهة الوطنية وثق إغلاق لجان ومنع مندوبين.
عندما تصرخ هذه الأحزاب، فهذا يعني أن مستوى الفجر في التزوير قد تجاوز كل الخطوط الحمراء، وأن "كعكة البرلمان" يتم تقسيمها بشكل إقصائي حتى لحلفاء النظام الصغار، لصالح الحيتان الكبار وأصحاب الملايين الذين اشتروا المقاعد مقدماً.
الخاتمة: برلمان "باطل" يطارد شرعيته في المحاكم
بينما كانت الهيئة الوطنية تحصي شكاواها الـ 53، كانت المحكمة الإدارية العليا تستقبل 159 طعناً جديداً تطالب بوقف هذه المهزلة. هذا الرقم الضخم من الطعون والشكاوى في جولة "إعادة" لدوائر ملغاة أصلاً، يؤكد أننا أمام عملية سياسية "ميتة إكلينيكياً".
النظام يحاول بشتى الطرق "سلق" الانتخابات وإعلان النتائج لفرض الأمر الواقع، لكن الـ 53 شكوى ستظل وثيقة تاريخية تشهد بأن برلمان 2025 لم يأتِ باختيار الشعب، بل جاء عبر خيام الرشاوى، وبوابات اللجان المغلقة، ومحاضر التزوير التي اعترفت بها الهيئة المشرفة نفسها. إنه برلمان "الشكاوى والطعون"، لا برلمان الشعب والقانون.

