لم تكن وفاة السباح الناشئ يوسف محمد، ابن الـ12 ربيعاً، مجرد حادث عرضي في بطولة رياضية، بل هي جريمة قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد، ارتكبتها يد الإهمال الحكومي التي باتت تفتك بأرواح المصريين في كل مكان، من المستشفيات إلى الطرقات، وصولاً إلى الملاعب الرياضية.
المشهد المأساوي في استاد القاهرة الدولي، حيث غرق طفل أمام أعين الجميع دون أن ينتبه له أحد، ثم نُقل بسيارة إسعاف "خردة" تفتقر لأبسط أجهزة الإنقاذ، يلخص بامتياز حالة الترهل والفساد التي وصلت إليها مؤسسات الدولة في عهد الانقلاب، الذي ينفق المليارات على المهرجانات والواجهات، ويستخسر توفير "جهاز صدمات" ينقذ حياة طفل.
فضيحة استاد القاهرة: غياب "المنقذين" وحضور "القتلة"
التفاصيل الصادمة التي كشفها شهود العيان تعرّي منظومة الأمان المتهالكة التي تديرها وزارة الشباب والرياضة. كيف يُعقل أن ينتهي سباق كامل، وينطلق سباق آخر، ويبقى طفل غارقاً في قاع المسبح دون أن يلحظه حكم أو منقذ أو مشرف؟ أين كانت "العيون الساهرة" التي يتشدق بها المسؤولون؟
الحقيقة المرة أن حياة "يوسف" لم تكن ذات قيمة في حسابات منظمي البطولة، الذين انشغلوا بتسيير المسابقات وتوزيع الميداليات، وتركوا "روحاً" تصارع الموت في القاع، ولم يُكتشف إلا بالصدفة البحتة من قبل سباح آخر! هذا ليس خطأً بشرياً، بل هو استهتار إجرامي نابع من يقين المسؤولين بأن المحاسبة غائبة في دولة "الواسطة" والمحسوبية.
إسعاف "الديكور": عندما يكون الطب شريكاً في الجريمة
الكارثة لم تتوقف عند الغرق، بل امتدت إلى "مسرحية الإنقاذ". سيارة الإسعاف المتواجدة في موقع حدث رياضي ضخم بحجم بطولة الجمهورية، لم تكن سوى "هيكل معدني" فارغ، بلا تجهيزات ولا جهاز صدمات كهربائية، وكأنها وضعت هناك فقط لاستيفاء الشكل القانوني "على الورق".
اعتراف والد الطفل بأن التدخل الطبي الحقيقي لم يبدأ إلا في المستشفى، وأن المدرب هو من حاول إنعاشه بجهود ذاتية، هو إدانة صارخة لوزارة الصحة ولمنظومة الطب الرياضي المنهار. في "الجمهورية الجديدة" المزعومة، يموت الأطفال لأن سيارة الإسعاف تحولت إلى "تاكسي للموت" بدلاً من أن تكون وحدة عناية مركزة متنقلة.
"تضليل" الاتحاد: محاولة بائسة لغسل اليد من الدم
بدلاً من الاعتراف بالكارثة وتحمل المسؤولية، سارع اتحاد السباحة لإصدار بيان "تبرئة ذمة" مخزٍ، يتحدث فيه عن تحمل تكاليف العلاج (الذي لم يحدث أصلاً لأن الطفل مات!)، وعن "متابعة الحالة لحظة بلحظة".
هذا البيان الكاذب، الذي فضحته شهادات الشهود وأسرة الضحية، يعكس العقلية الأمنية التي تدار بها المؤسسات: "التستر أولاً، والإنكار ثانياً". محاولة تصوير الأمر على أنه "إغماء مفاجئ" أو "اصطدام" لتبرير الفشل في المراقبة والإنقاذ، هي جريمة أخرى تضاف لسجل التزوير الحكومي. صرخة الأم المكلومة "مش هنسمح بتضليل" هي الصوت الوحيد الصادق وسط جوقة الأكاذيب الرسمية.
تحويل للنيابة.. أم "دفن" للقضية؟
قرار وزير الشباب والرياضة بتحويل الواقعة للنيابة العامة يبدو في ظاهره إجراءً قانونياً، لكن التجارب السابقة مع كوارث مشابهة (مثل سقوط مدرجات أو وفاة لاعبين آخرين) علمتنا أن هذا الإجراء غالباً ما يكون "ثلاجة" لتبريد الرأي العام وامتصاص الغضب، لينتهي الأمر بـ"حفظ القضية" أو تقديم موظف صغير كبش فداء، بينما يفلت "الكبار" المسؤولون عن تدهور المنظومة بأكملها.
إن دماء "يوسف" في رقبة كل مسؤول في حكومة الانقلاب، من الوزير الجالس في مكتبه المكيف، إلى رئيس الاتحاد المتواطئ، إلى مسؤولي الاستاد المهملين. هذه الحادثة ليست قضاءً وقدراً، بل هي نتيجة حتمية لنظام يرى في المواطن "عبئاً"، وفي الإنفاق على سلامته "خسارة"، وفي حياته "رقماً" يسقط سهواً في دفاتر الوفيات.

