بينما ينشغل نظام الانقلاب ببناء "مدن خرسانية" جديدة في الصحراء لا هوية لها ولا تاريخ، يقبع التراث الحضاري الحقيقي لمصر تحت ركام الإهمال والتهميش المتعمد. جبانة منف، العاصمة التاريخية لمصر القديمة، التي تمتد من أبو رواش إلى دهشور، وتضم أعظم أسرار الفراعنة، لا تزال أغلب كنوزها (90%) مطمورة تحت الرمال، تنتظر من يكشف عنها الغطاء، لكنها بدلاً من ذلك تواجه "تجاهلاً رسمياً" يرقى إلى مستوى الجريمة الحضارية. هذا الإهمال ليس مجرد عجز في الميزانية، بل هو انعكاس لسياسة نظام يرى في الآثار "سلعة" للبيع أو "ديكوراً" للافتتاحات الكبرى، بينما يترك الجوهر يغرق في الفوضى والعشوائية.
رشيد وفوة: جواهر "مهمشة" على خارطة النسيان
الكارثة لا تتوقف عند حدود منف، بل تمتد لتطال مدناً أثرية كاملة مثل رشيد وفوة، التي دعا الدكتور عبد الرحيم ريحان، الخبير الأثري، مراراً وتكراراً لإنقاذها والترويج لها. هذه المدن التي تحوي روائع العمارة الإسلامية وتاريخاً نضالياً مجيداً، سقطت من حسابات حكومة الانقلاب التي لا تعرف قيمة التراث إلا إذا كان قابلاً للرهن أو الخصخصة.
في رشيد، تتحول المنازل الأثرية إلى أطلال تسكنها الأشباح، وفي فوة تضيع ملامح "مدينة المساجد" وسط العشوائيات. هذه "الجواهر المنسية" كان يمكن أن تكون قبلة للسياحة العالمية، لكن في ظل غياب الرؤية وسيطرة "عقلية المقاول" على إدارة الدولة، تُركت لتواجه مصير الاندثار، وكأن هناك رغبة دفينة في طمس كل ما يربط المصريين بجذورهم التاريخية الحقيقية.
"الخراتية" والمتسولون: واجهة مصر في عهد السيسي
الصورة الأكثر إيلاماً التي نقلها الدكتور ريحان هي الفوضى التي تضرب المواقع الأثرية، حيث يسيطر "الخراتية" (البلطجة المقنعة) والمتسولون والباعة الجائلون على المشهد. هؤلاء الذين يضايقون السياح ويجبرونهم على الشراء بالقوة، ليسوا سوى نتاج طبيعي لغياب دولة القانون وانتشار الفساد في المحليات وشرطة السياحة.
في "الجمهورية الجديدة" المزعومة، لا يجد السائح أمامه تاريخاً يُحترم، بل يجد فوضى عارمة، وتحرشاً سياحياً، وسوء معاملة، مما يضرب سمعة مصر في مقتل. وبدلاً من أن تتدخل الدولة لفرض النظام وتجميل بانوراما المواقع الأثرية، تكتفي بحملات أمنية موسمية لـ"الشو الإعلامي"، بينما تستمر المافيات الصغيرة في استنزاف السياح وتشويه صورة الوطن.
الافتتاحات الكبرى: "ديكور" يخفي الخراب
بينما يُطالب الخبير الأثري بالحفاظ على صورة مصر خلال "الافتتاحات الكبرى"، نجد أن النظام يستخدم هذه الأحداث كـ"مهرجانات دعائية" لشخص الحاكم، وليس للاحتفاء بالحضارة. يتم تلميع الواجهة لليلة واحدة، وتُصرف المليارات على الألعاب النارية والمواكب الملكية، بينما في اليوم التالي يعود الحال كما كان: إهمال، سرقات، وتعديات على حرم الآثار.
متاحفنا التي يجب أن تكون منارات ثقافية متكاملة، كما أشار د. ريحان، تحولت في عهد الانقلاب إلى مشاريع استثمارية تُدار بمنطق "السبوبة"، حيث يتم تأجير قاعاتها للأفراح والمناسبات الخاصة، في ابتذال غير مسبوق لهيبة التاريخ.
حضارة عريقة في يد نظام "جاهل"
إن ما يحدث للآثار المصرية في عهد عبد الفتاح السيسي هو جريمة متكاملة الأركان؛ بدءاً من تهريب القطع الأثرية، مروراً بإهمال المدن التاريخية، وصولاً إلى ترك المواقع السياحية مرتعاً للبلطجة. هذا النظام لا يؤتمن على حاضر مصر ومستقبلها، فكيف نأتمنه على ماضيها؟ إن صرخة الخبراء لإنقاذ جبانة منف وآثار رشيد ليست مجرد مطالب فنية، بل هي نداء استغاثة لإنقاذ ذاكرة الأمة من الطمس والتشويه على يد عصابة لا تقدس إلا المال والسلطة.

