ما جرى في مستشفى دار السلام هرمل للأورام – الذي تحوّل رسميًا إلى “جوستاف روسي إنترناشونال – مصر” بعد منحه لمشغل فرنسي لمدة 15 عامًا – ليس مجرد أزمة عابرة حول رسوم كشف تم التراجع عنها، بل نموذج مكثف لكيف تدير حكومة السيسي خصخصة الصحة على حساب المرضى الأفقر، تحت شعارات “الشراكة مع الخبرات العالمية” و“رفع جودة الخدمة”. فخلف بيانات النفي الرسمية من وزارة الصحة، هناك عقد امتياز طويل الأجل، ومنطق تسعير جديد، ومؤشرات على أن العلاج المجاني لمرضى نفقة الدولة والتأمين الصحي في طريقه إلى التضييق التدريجي لا التوسع.

 

بداية القصة ترجع إلى القانون رقم 87 لسنة 2024، الذي فتح الباب رسميًا لمنح التزام إدارة وتشغيل وتطوير منشآت صحية عامة لشركات خاصة على طريقة “تأجير المستشفيات”. بموجب هذا القانون أصدر مجلس الوزراء قراره رقم 5 لسنة 2025، مانحًا شركة “إليفيت برايفت إيكويتي” الخاصة حق إدارة وتشغيل وتطوير مستشفى دار السلام هرمل للأورام، التابعة لوزارة الصحة، لمدة 15 عامًا، وتحويلها إلى فرع للمركز القومي الفرنسي للأورام “جوستاف روسي الدولي” تحت اسم “جوستاف روسي إنترناشونال – مصر”. العقد ينص على توسعة ورفع كفاءة المستشفى وزيادة عدد الأسرة من 154 سريرًا إلى 257 سريرًا، مع التزام ظاهري بتخصيص 70% من الطاقة الاستيعابية لمرضى نفقة الدولة والتأمين الصحي والتأمين الشامل.

 

على الورق، تبدو الصورة “وردية”: نقل خبرة فرنسية مرموقة في علاج السرطان إلى القاهرة، تطوير البنية التحتية، توسعة القدرة الاستيعابية، مع استمرار خدمة الفقراء عبر نسب محددة من الأسرة للممولين العموميين. لكن ما كشفته الأيام الماضية هو الوجه الآخر للخصخصة: محاولة تحويل حتى مرضى نفقة الدولة والتأمين إلى “مصدر إيراد” إضافي عبر رسوم كشف جديدة، قبل أن ينفجر الغضب ويتم التراجع التكتيكي.

 

فجأة، تفاجأ المرضى المعالجون على نفقة الدولة والتأمين الصحي في “جوستاف روسي مصر” بإعلان على أبواب المستشفى وداخل العيادات يقرر فرض رسوم للكشف: 150 جنيهًا لكشف الأخصائي، و300 جنيه لكشف الاستشاري، حتى على من يحمل قرارات علاج على نفقة الدولة أو يغطيه التأمين الحكومي. إدراة المستشفى برّرت هذه الخطوة بأنها تأتي في إطار “تقنين الخدمات” و“ضمان استدامة الجودة”، وهو نفس المنطق الذي يُستخدم دائمًا لتمرير زيادات الأسعار وتخفّي الدولة خلف شعار “الكفاءة”.

 

لكن أنين المرضى وصل سريعًا إلى الإعلام وشبكات التواصل، فانتشرت شهادات لمرضى سرطان جاءوا من محافظات بعيدة، يحملون قرارات علاج مجانية، ليجدوا أنفسهم مطالبين بدفع 150 أو 300 جنيه في كل زيارة متابعة أو كشف. في بلد تجاوزت فيه نسبة كبيرة من الأسر خطوط الفقر، تصبح هذه المبالغ عائقًا حقيقيًا أمام استكمال العلاج، خصوصًا في أمراض مزمنة تتطلب زيارات متكررة وتحاليل وفحوصات باهظة. هنا انفجرت موجة غضب وكتابات اعتبرت أن ما يجري هو أول نتائج خصخصة مستشفى هرمل، وتهديد مباشر لحق الفقراء في العلاج المجاني من السرطان.

 

أمام هذا الضغط، اضطر وزير الصحة خالد عبد الغفار لعقد اجتماع عاجل مع إدارة “جوستاف روسي مصر”، خرج بعده ببيان رسمي يؤكد “الرفض القاطع” لفرض أي رسوم كشف على مرضى نفقة الدولة والتأمين الصحي، والتشديد على أن المستشفى “ملزم تعاقديًا” بتقديم الخدمة كاملة لـ70% من المرضى دون أي رسوم كشف إضافية. الوزارة أوضحت أن ما طُرح كان مقترحًا من المستشفى جرى رفضه، وأنها كلفت مسؤوليها بمتابعة التنفيذ ميدانيًا خلال 24 ساعة مع التهديد بمساءلة “فورية” لأي مخالفة.

 

إدارة المستشفى سارعت بدورها إلى إصدار بيان تقول فيه إنها “ملتزمة بتوجيهات الوزير” وأنه “لا زيادة في الرسوم على مرضى نفقة الدولة والتأمين”. المدير المصري للمستشفى قال في تصريحات صحفية إن رسوم الكشف موجودة في مستشفيات الوزارة الأخرى، لكن الوزير طلب عدم تطبيقها على هذه الفئة لأن “وضع المستشفى خاص”، مؤكِّدًا أنهم “نفذوا كلام الوزير”.

 

لكن التراجع عن الرسوم لا يمحو الأسئلة الأعمق: ما الذي يدفع إدارة مستشفى شريك لوزارة الصحة للتفكير أصلًا في فرض رسوم على فئة يفترض أنها معفاة؟ وكيف يمكن ضمان عدم تكرار هذه المحاولة في شكل آخر (رسوم خدمات، فحوصات إضافية، فروق غرف…) تحت عناوين جديدة؟ العقد نفسه ينص صراحة على أن التسعير “سيكون على أساس مواكبة أسعار سوق الخدمات الطبية ووفقًا للأسس الاقتصادية”، مع تخصيص نسب من الطاقة الاستيعابية لمرضى نفقة الدولة والتأمين. هذا يعني أن منطق الربحية حاضر بقوة، وأن الضغوط لزيادة الإيرادات ستظل مستمرة طوال فترة الـ15 عامًا.

 

من زاوية العدالة الصحية، خصخصة مستشفى أورام كبير كان تاريخيًا ملاذًا للفقراء تضرب فكرة “العلاج كحق” في عمقها. النموذج الذي يُروَّج له اليوم هو أن الدولة لم تعد قادرة على إدارة المستشفيات بكفاءة، فتسلّمها لشركات ومستثمرين أجانب مع إلزامهم بنسبة من الخدمة مجانًا للفقراء. لكن التجربة العملية تقول إن أي مستثمر سيبحث عن تعظيم عائده، ومع ارتفاع تكلفة الدواء والأجهزة والأطباء، ستتحول هذه النسبة من المرضى المعفيين إلى عبء يحاول تعويضه من جيوب بقية المرضى، وربما من خلال “تحايل” على الفئات المعفاة نفسها.

 

الأخطر أن هذا المسار يجري في ظل غياب شفافية حقيقية حول تفاصيل العقود، وعدم وجود برلمان مستقل أو إعلام قوي يراقب ويفتح الملفات. العقد الذي منح “إليفيت” حق إدارة هرمل ليس منشورًا بالكامل أمام الرأي العام، وما يصل إلى الناس هو تسريبات أو مقتطفات، بينما تُتخذ القرارات في غرف مغلقة بين الحكومة والشركة والمستثمر الأجنبي. وفي هذه البيئة، يصبح المرضى الحلقة الأضعف التي يُجرَّب عليها كل شيء: من وقف قرارات علاج سابقة، إلى إعادة فرز المرضى، إلى فرض رسوم “صغيرة” قد تكون بداية لمسار أكبر.

 

واخيرا فان قصة “جوستاف روسي – هرمل سابقًا” ليست مجرد أزمة رسوم كشف جرى احتواؤها ببيان وزاري واعتذار شكلي؛ إنها إنذار مبكر لما تعنيه خصخصة الصحة في بلد فقير تحت حكم عسكري–أمني: مستشفيات عامة تُسلم لشركات خاصة وأجانب لسنوات طويلة، عقود معقدة بلا شفافية، منطق ربحية يتسلل إلى قلب الخدمة، وفقراء سرطان يجدون أنفسهم فجأة مطالبين بالدفع مقابل علاج قيل لهم إنه “على نفقة الدولة”. قد يتراجع الوزير اليوم تحت ضغط الرأي العام، لكن ما لم تتغير الفلسفة الحاكمة للملف الصحي – من منطق الاستثمار في المرضى إلى منطق الاستثمار في صحة الناس كحق – ستظل الرسوم والقرارات والخصخصة تتقدم خطوة خطوة، بينما يتراجع أمامها أبسط حقوق المصريين في علاج كريم بلا إذلال ولا فواتير إضافية