حوّل قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي مصر إلى ما يشبه "جمهورية الكباري"، حيث تُصب مئات المليارات في الخرسانة والإسفلت بينما ينهار التعليم والصحة ومستوى المعيشة تحت وطأة الغلاء والديون. هذه ليست رؤية تنموية بل مشروع سلطة عسكرية تشتري الولاء عبر شبكات مقاولين ومحظيين، وتترك أغلبية المصريين عالقين في طوابير المستشفيات المتهالكة والمدارس المكتظة بلا معلمين ولا بنية تحتية. في ظل أزمات عملة وتضخم غير مسبوق، يصبح كل كوبري جديد شهادة إضافية على نظام يفضّل الأسمنت على الإنسان، ويستخدم "الإنجازات" كديكور لبقاء سياسي لا كخدمة عامة.
كم أُهدِر في عهد الكباري؟
تقر وزارة النقل نفسها بأن الفترة من 2014 حتى 2024 شهدت إنشاء 945 كوبريًا ونفقًا بتكلفة 132 مليار جنيه، في إطار خطة للوصول إلى 2500 منشأة بتكلفة إجمالية تقارب 140 مليار جنيه لهذا البند وحده. وتؤكد البيانات ذاتها أن ما يسمى "المشروع القومي للطرق" يستهدف بناء 7 آلاف كيلومتر من الطرق الجديدة بتكلفة 175 مليار جنيه، مع تطوير وازدواج 10 آلاف كيلومتر من الطرق القائمة بكلفة 130 مليار جنيه إضافية، ما يرفع فاتورة الشبكة الجديدة إلى أكثر من 300 مليار جنيه في عقد واحد.
كما كشفت الصحف الحكومية عن خطة أوسع لتطوير شبكة النقل، تُخصَّص فيها للطرق والكباري وحدها استثمارات تقدَّر بنحو 474 مليار جنيه، بعيدًا عن مئات المليارات الأخرى للأنفاق والسكك الحديدية، بما يعني أن الخرسانة التهمت جزءًا ضخمًا من الطاقة الاستثمارية للدولة في سنوات الأزمة.
ديون ثقيلة لمشروعات بلا جدوى معلنة
تجمع البيانات المستقلة على أن هذه الطفرة في الخرسانة جرت في سياق تضخم غير مسبوق في الدين العام، حيث اعترفت الحكومة في تحليل رسمي لموازنة 2025/2026 بأن خدمـة الدين والفوائد تلتهم قرابة ثلثي الإنفاق العام، وأن فوائد الديون وحدها تعادل نحو 87% من حصيلة الضرائب المتوقعة. في الوثيقة نفسها تحدد السلطة سقفًا للدين العام بنحو 94.3% من الناتج المحلي في منتصف 2025، مع وعود شكلية بتخفيضه، بينما تستمر في الاقتراض المكثف لتمويل مشروعات لا تخلق إنتاجًا ولا وظائف كافية، في مقدمتها الطرق والكباري والمحاور.
ورغم هذا العبء، لا تنشر الحكومة دراسات جدوى شفافة تربط بين كل كوبري جديد وبين زيادة حقيقية في الإنتاجية أو انخفاض ملموس في وقت وتكلفة النقل، ما يعزز رواية الخبراء الذين يرون أن المشروعات صُممت أساسًا لخدمة شبكات المقاولين والمؤسسات السيادية لا لخدمة الاقتصاد الحقيقي.
الأولويات المنحازة للخرسانة ضد التعليم والصحة
ينص الدستور على تخصيص ما لا يقل عن 10% من الناتج المحلي للتعليم والصحة والبحث العلمي، لكن بيانات البيان المالي لموازنة 2024/2025 تشير إلى أن ما يُرصد للصحة لا يتجاوز نحو 1.16% من الناتج، وللتعليم قرابة 1.7% فقط، أي أقل من نصف ما أقرّه الدستور، رغم الانهيار الواضح في جودة المستشفيات والمدارس.
في المقابل، تُظهِر الأرقام الرسمية ارتفاع مخصصات البنية التحتية للنقل بشكل متواصل، في ظل خطاب سياسي يفاخر بمحاور وكباري جديدة بينما يقرّ بتحمل المواطنين تبعات "الإصلاح" عبر رفع أسعار الوقود والكهرباء وتآكل الأجور الحقيقية.
هذا الانحراف المتعمد في هيكل الإنفاق يعني ببساطة أن كل جنيه إضافي يُسكب في الخرسانة يُنتزع من معلم وطبيب ومريض وتلميذ، لصالح صور جوية لطرق واسعة لا يملك الفقراء ثمن العبور عليها.
جمهورية الكباري: ثروة للأرض وخسارة للناس
بيانات وزارة النقل ومقالات الإعلام الموالي نفسها تعترف بإنشاء عشرات المحاور الجديدة على النيل وداخل القاهرة الكبرى، وهي مشروعات رفعت بشكل حاد أسعار الأراضي والعقارات على جانبي هذه المحاور، ما خلق ريعًا ضخمًا لدوائر رجال الأعمال المتحالفة مع السلطة، بينما بقيت أحياء كاملة بلا مدارس كافية أو مستشفيات مجهزة.
وتشير تحليلات اقتصادية إلى أن الاستثمار المكثف في الطرق وسط ضعف نمو القطاعات الإنتاجية عمّق اختلال سوق العمل؛ فبحسب بيانات دولية، يدخل سوق العمل المصري سنويًا نحو 1.3 مليون شاب، بينما لا يتجاوز عدد الوظائف الجديدة نصف هذا الرقم تقريبًا، في ظل بطالة شبابية تقارب 19% عام 2024. هكذا تحصل شبكات المصالح على زيادة فورية في قيمة الأصول والأراضي، بينما يدفع الشباب ثمن "النهضة الخرسانية" بطالةً وهجرةً قسرية وسنوات ضائعة من التعليم الرديء والصحة المنهارة.
الخرسانة لا تُطعم الجائعين
مع كل موجة غلاء وتدهور في سعر الجنيه، تتحول الكباري الجديدة إلى رموز فاقعة لسوء توزيع الموارد، لا لإنجاز تنموي حقيقي، خصوصًا في بلد ما زال جزء معتبر من مدارسه يحتاج إلى صيانة عاجلة، ونظامه الصحي يئن تحت نقص الكوادر والتمويل مقارنة بحجم السكان.
وفي حين تُدار الموازنة بمنطق خدمة الدائنين وتمويل المشروعات الاستعراضية، تستمر معدلات البطالة – خاصة بين الشباب – في مستويات مرتفعة، ويُدفَع ملايين المصريين إلى حافة الفقر أو ما تحتها، بينما تُرفع لافتات "إنجاز جديد" فوق كل محور جديد. بهذا المعنى، ليست "جمهورية الكباري" إنجازًا في عهد السيسي، بل عنوانًا مكثفًا لسياسة إفقار ممنهج، تُحوِّل عرق المصريين وحقوقهم الدستورية في التعليم والصحة إلى كتل خرسانية تخدم عمر هذا النظام لا عمر المجتمع.

